أعلنت الحكومة المصرية مؤخراً عدم تخصيص أي مخصصات مالية لإجراء الانتخابات المحلية ضمن موازنة العام المالي 2025-2026، رغم تضمينها انتخابات مجلسي النواب والشيوخ في النصف الثاني من العام نفسه، والتي ستجرى دون إشراف قضائي كامل على صناديق الاقتراع للمرة الأولى منذ 2011.

ويأتي هذا القرار في ظل تأجيل الانتخابات المحلية إلى ما بعد تعديل الدستور المتوقع عرضه على مجلس النواب نهاية عام 2027، تمهيداً لإجراء استفتاء شعبي عليه مطلع 2028، حيث يتضمن التعديل تغييرات شاملة في مواد تنظيم المجالس المحلية واختصاصاتها.

 

الموازنة المصرية وأولويات الإنفاق

تأتي موازنة العام المالي 2024-2025 في إطار رؤية وطنية تهدف إلى إعادة ترتيب الأولويات ورفع كفاءة الإنفاق العام، مع التركيز على التنمية البشرية من خلال الصحة والتعليم وبرامج الحماية الاجتماعية، بالإضافة إلى تطوير الخدمات العامة الأساسية.

ورغم أهمية الانتخابات المحلية في تعزيز المشاركة الشعبية، لم تخصص الحكومة أي أموال لها، ما يعكس توجه السلطة لتأجيلها إلى حين إتمام تعديل الدستور، كما أن هناك مبادرات لتحفيز الأداء المحلي عبر حوافز مالية للمحافظات التي تحقق معايير معينة في التخطيط وإعداد دراسات الجدوى.

 

تعديل الدستور وتأجيل الانتخابات المحلية

يهدف مشروع تعديل الدستور إلى إحداث تغيير شامل في مواد المحليات، مع إدخال مادة انتقالية تسمح بتمديد حكم قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي إلى عام 2036 بدلاً من 2030، من خلال ترشحه لولاية رابعة مدتها ست سنوات.

كما يسعى التعديل إلى تعديل صلاحيات المجالس المحلية، بحيث يمكن حلها بقرار من رئيس الجمهورية وإعادة انتخابها بعد استيفاء إجراءات حكومية معينة، في خطوة تعكس رفض النظام لإجراء انتخابات محلية حرة تخشى من خلالها تفلت معارضين بين أكثر من 50 ألف عضو مجلس محلي منتخب.

وقد سبق أن تم تعديل الدستور في 2019 لتمديد مدة الرئاسة من أربع إلى ست سنوات وإعادة مجلس الشيوخ دون صلاحيات فعلية.

 

انهيار المنظومة السياسية في مصر

تعتبر المحليات في مصر "بؤرة الفساد" الأكبر، حيث تنتشر الرشاوى المالية المرتبطة بمنح التراخيص في جميع المحافظات.

فلم تشهد مصر انتخابات محلية منذ 2008، مع تشكيل مجالس محلية مؤقتة منذ 2011، في ظل غياب قانون المحليات الذي تأخر لأكثر من 14 عاماً بسبب تعارض مصالح بين الرقابة المحلية وعمليات الإسناد المباشر لمشاريع البنية التحتية التي تسيطر عليها جهات عسكرية.

ويرى مراقبون أن تعطيل إصدار قانون الإدارة المحلية يعود إلى مخاوف النظام من فقدان السيطرة على المجالس المحلية التي قد تمارس رقابة على مشاريع البنية التحتية والخدمات، والتي تشرف عليها مؤسسات عسكرية تابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية والهيئة الهندسية للجيش.

كما أُدين رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق بالسجن خمس سنوات عام 2018 بعد كشفه عن فساد مالي ضخم يقدر بـ600 مليار جنيه خلال ثلاث سنوات، مما يعكس حجم الأزمة السياسية والرقابية في البلاد.

رغم الدعوات المتكررة من نواب بالبرلمان تابعين في الأساس لنظام الانقلاب لإجراء الانتخابات المحلية لتخفيف العبء عنهم في دوائرهم، فإن الحكومة والبرلمان يتحملان مسؤولية عدم إصدار قانون الإدارة المحلية الذي ينظم هذه الانتخابات ويحدد صلاحيات المجالس المحلية.

أكد خبراء أن القانون ليس خاصاً بالانتخابات فقط بل ينظم العمل المحلي والرقابة على المحافظين، مع ضرورة النقاش حول حق سحب الثقة من المحافظين، وهو ما لم يتحقق بعد بسبب تعليمات من جهات سيادية بعدم استعداد الدولة لإجراء هذه الانتخابات.

 

الأسباب الحقيقية وراء تأجيل إصدار قانون الإدارة المحلية وعدم إجراء انتخابات محلية منذ 2008

يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1. مخاوف النظام من نجاح "الإخوان المسلمين"

في انتخابات 2005 البرلمانية، حقق "الإخوان المسلمون" نجاحًا كبيرًا بحصولهم على حوالي 20% من المقاعد، مما دفع النظام السابق إلى تأجيل الانتخابات المحلية التي كان من المقرر إجراؤها في 2006 إلى 2008، بهدف إعادة ترتيب الأوضاع وتأمين السيطرة السياسية.

كان الهدف من التأجيل هو اتخاذ إجراءات أمنية وتعديلات دستورية لمحاصرة حركة "الإخوان" وإرباكها، ومنعها من التمدد على المستوى المحلي الذي يمثل قاعدة انتخابية مهمة1.

2. التزوير والتدخل الأمني المكثف

انتخابات 2008 المحلية شهدت تزويرًا واسعًا وتدخلًا أمنيًا صارخًا، حيث جُرّبت أساليب التزوير في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى 2007، مما أدى إلى تدهور مصداقية الانتخابات المحلية.

كما ساهمت المجالس المحلية في تسهيل التزوير في الانتخابات البرلمانية عام 2010، مما دفع النظام إلى حل هذه المجالس لاحقًا لضمان عدم وجود قواعد انتخابية للمعارضة.

3. حكم القضاء الإداري بحل المجالس المحلية

في يونيو 2011، قضت محكمة القضاء الإداري بحل المجالس الشعبية المحلية لأنها كانت أدوات للنظام السابق، وفقدت شرعيتها بعد الثورة.

الحكومة لم تطعن في الحكم، مما أدى إلى فراغ في المجالس المحلية، وضرورة إصدار قانون جديد لإجراء انتخابات محلية منتظمة، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

4. "بيزنس الجيش" وتأثيره على تأجيل الانتخابات

الجيش المصري يسيطر على مشاريع اقتصادية ضخمة على المستوى المحلي، ويخشَى أن تؤدي مجالس محلية منتخبة ونزيهة إلى وقف هذه المشاريع أو تقاسم الأرباح معها.

هذا الخوف من فقدان السيطرة الاقتصادية والسياسية على المحافظات يعد سببًا رئيسيًا وراء تجميد قانون الإدارة المحلية وتأجيل الانتخابات.

5.  ضعف الإرادة السياسية والتذرع بمبررات إدارية

الحكومات المتعاقبة تذرعت بمبررات واهية لعدم إصدار قانون الإدارة المحلية، مثل الحاجة إلى إعداد قانون جديد وتنظيم الانتخابات بشكل أفضل، لكن في الواقع كانت هناك مقاومة داخل النظام لإجراء انتخابات محلية حرة بسبب خوفه من فقدان السيطرة على المجالس المحلية التي قد تمارس رقابة فعلية على المحافظين والإدارات المحلية.

6.  غياب الديمقراطية والهيمنة الأمنية

الهيمنة الأمنية على العملية الانتخابية تجعل من الصعب إجراء انتخابات محلية حرة ونزيهة، حيث تسيطر الأجهزة الأمنية على قوائم المرشحين وتفرض قيودًا صارمة على المشاركة السياسية، فهذا الواقع يعزز مركزية السلطة ويعيق استقلالية المجالس المحلية، مما يفسر استمرار تأجيل الانتخابات.

 

باختصار.. تأجيل الانتخابات المحلية في مصر منذ 2008 يعود إلى المخاوف الأمنية والسياسية للنظام من فقدان السيطرة على القواعد الشعبية.