في أكثر من عقد من الزمن، شهدت مصر تحولات سياسية واقتصادية متسارعة، كان لزامًا على كبار المسؤولين الحكوميين أن يتكيفوا معها، لكن الملفت للنظر أن كثيرًا من الوزراء والمسؤولين الذين عُرفوا بإدارتهم للسلطة العامة، تحولوا بعد مغادرتهم للمناصب الرسمية إلى قادة اقتصاديين بارزين، يقودون إمبراطوريات مالية واستثمارات ضخمة داخل مصر وخارجها. هذه الظاهرة التي باتت تثير علامات استفهام بشأن العلاقة بين السلطة والمال، والتشابك المحتمل بين النفوذ السياسي والاستفادة الاقتصادية الخاصة.

في هذا التقرير، نسلط الضوء على أبرز الأسماء التي كانت تدير ملفات الدولة الحيوية، وكيف أفلحت في تحويل نفوذها الرسمي إلى إمكانات اقتصادية هائلة عبر شركات وصناديق استثمارية عملاقة، معتمدين على علاقاتهم الوطيدة بالنظام الحاكم، وسط غياب شبه كامل للشفافية والرقابة.

 

من مناصب الدولة إلى ممالك المال.. خريطة الأباطرة الجدد

شهدت الحقبة التي تولى فيها عبد الفتاح السيسي حكم مصر (2014-حتى الآن) تغييرات وزارية متكررة، تعدت 12 تعديلًا وزاريًا، غادر خلالها عشرات الوزراء من مواقعهم، لكن كثيرين منهم لم يختفوا عن المشهد، بل استغلوا مناصبهم السابقة وخبراتهم السياسية ليأسسوا لشركات وصناديق استثمارية ضخمة. من بين هؤلاء:

داليا خورشيد، وزيرة الاستثمار السابقة، التي تزوجت من محافظ البنك المركزي السابق، ونجحت في تأسيس إمبراطورية استثمارية تشمل الإعلام والخدمات المالية.

هالة زايد، وزيرة الصحة السابقة، التي خرجت من الوزارة بعد تورطها في فضائح فساد كبرى.

عاصم الجزار، وزير الإسكان السابق، الذي انتقل بعد رحيله إلى إدارة مشاريع ضخمة في ليبيا مع مجموعة عرجاني، واستلم رئاسة حزب سياسي منافس.

السيد القصير، وزير الزراعة السابق، الذي أصبح رئيسًا لقطاع مالي في مجموعة عرجاني وشارك في نشاطات اقتصادية موسعة.

رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية الحالية، التي تجمع بين منصبها الحكومي وعضوية مجلس إدارة بنك إماراتي، مما يثير تساؤلات حول تضارب المصالح.

أحمد كوجوك، وزير المالية الحالي، الذي كان قبل تعيينه عضوًا بمجلس إدارة مجموعة استثمارية ضخمة.

محمد إبراهيم شيمي، وزير قطاع الأعمال العام الحالي، الذي يدير شركات استشارية واستثمارية في الطاقة.

 

صندوق «مورفو».. تجربة الصندوق السيادي تحت المجهر

شهد عام 2024 انسحاب شخصيات بارزة من «صندوق مصر السيادي»، أبرزها أيمن سليمان، الرئيس السابق للصندوق، ونائبه إيهاب رزق، الذين أسسوا لاحقًا شركة «مورفو إنفستمنتس»، التي أعلنت إغلاق جولة تمويل أولى بقيمة 55 مليون دولار. تستهدف الشركة مشروعات ضخمة في الزراعة والتعليم والرعاية الصحية بالسوق المصري، وتمتد إلى أسواق الخليج وأفريقيا وأوروبا.

ويبرز هذا الصندوق كنموذج لتكرار ظاهرة تحويل المسؤولين السابقين إلى فاعلين اقتصاديين جدد، مستفيدين من علاقاتهم الحصرية مع النظام، وغالبًا عبر صفقات وأصول بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية.

 

السلطة والمال.. تزاوج يتخطى الحدود

يرى خبراء في الاقتصاد والسياسة أن العلاقة بين السلطة والمال في مصر وصلت إلى حد من التداخل يصعب فصله. يقول الدكتور مصطفى يوسف، الخبير الاقتصادي، إن «هناك تزاوجًا شديدًا بين السلطة والمال داخل أروقة الحكومة»، مشيرًا إلى حالات مثل انتقال وزير الإسكان السابق عاصم الجزار فور مغادرته الوزارة إلى إدارة شركات عملاقة تربطها علاقات قوية بالدولة، خصوصًا في مشاريع إعادة الإعمار في ليبيا.

ويضيف يوسف: «القضية لا تقتصر على شخصيات محددة، بل هي جزء من منظومة مستمرة من استغلال النفوذ وتحويل المناصب الحكومية إلى منصات للثراء الخاص».

 

دائرة المصالح والتضارب: حقيقة أم مصادفة؟

يتناول التقرير حالات عديدة توضح كيف أن بعض الوزراء والمسؤولين السابقين يستفيدون من مواقعهم في الحكومة لتأسيس شركات أو شراكات تجارية متشابكة مع مؤسسات حكومية أو استثمارات خاصة داخل مصر وخارجها. ويبرز في ذلك:

ارتباط وزيرة الاستثمار السابقة داليا خورشيد بشركة «إيجل كابيتال» التي استحوذت على قطاع الإعلام.

تعيين رانيا المشاط في مجلس إدارة بنك إماراتي أثناء وجودها في منصب وزيرة.

وجود وزير المالية أحمد كوجوك في مجلس إدارة مجموعة «طلعت مصطفى» قبل تعيينه وزيرًا، وهو ما يثير تساؤلات حول تضارب المصالح.

تحولات وزير الصحة السابقة هالة زايد التي غابت عن المشهد بعد تحقيقات فساد كبيرة في الوزارة.

 

غياب الشفافية.. وارتفاع مستويات الفساد

تصنف مصر حاليًا في المرتبة 130 من بين 180 دولة على مؤشر مدركات الفساد لعام 2024، مما يعكس وضعًا متدنيًا في الشفافية والحوكمة. وهذا يفسر صعوبة الوصول إلى معلومات دقيقة حول حجم وأداء الشركات التي أسسها أو يديرها مسؤولون سابقون.

تقول مصادر مستقلة إن «غالبية هذه الشركات لا تظهر بياناتها المالية أو تحركاتها الاستثمارية بشكل علني»، ما يفتح الباب أمام التلاعب والتجاوزات المحتملة، ويعزز فرضية استغلال النفوذ في تحصيل الصفقات والمناقصات.