"انتهت مدة حبسي، لكن لم ينته العذاب"... بهذه العبارة اختصر "م. س"، سجين سياسي مفرج عنه، رحلة عودته إلى منزله بعد سنوات من السجن، تلتها 48 ساعة من التيه والترويع، تنقّل خلالها بين السجن ومديريات الأمن ومقار شرطية وأخرى أمنية، في ما يُشبه "الكعب الداير"، الذي بات طقساً إجبارياً يسبق الإفراج الرسمي عن آلاف السجناء.

ورغم أن القوانين المنظمة لعملية الإفراج عن المسجونين واضحة ومحددة، إلا أن الوقائع المتكررة تكشف عن واقع آخر، تحوّل فيه "إخلاء السبيل" إلى أداة ترهيب نفسي، ومعاناة بيروقراطية، وإذلال ممنهج، قد يمتد لأسابيع، لا سيما في حالات السجناء السياسيين.
 

48 ساعة من الرعب.. تفاصيل "التحرر المؤجل"
   في شهادة مؤلمة، روى "م. س"، الذي فضل عدم ذكر اسمه الكامل، كيف تحوّلت لحظة الإفراج من سجن المنيا إلى جولة مرهقة بين أجهزة الأمن.
بدأت رحلته بعد إنهاء الإجراءات الإدارية بالسجن صباحاً، ليجد نفسه بعدها داخل عربة ترحيلات تنقله إلى مديرية أمن المنيا، حيث قضى ساعات مجهولة في "وضع القرفصاء"، ثم أُرسل إلى مديرية أمن المنوفية، مسقط رأسه، في انتظار الترحيل إلى قسم الشرطة التابع لسكنه.

لكن الأمور لم تنتهِ هناك، إذ نُقل مجدداً، وهو معصوب العينين، في سيارة ميكروباص إلى مبنى لم يكن يعرفه، تبيّن لاحقاً أنه مقر للأمن الوطني.
وهناك، كما يصف، خاض ما يشبه "حرباً نفسية" خالية من الأسئلة، مليئة بالصمت، والتوجّس، والانتظار القاتل.

يقول "م. س": "كان صوت التعليمات صارماً: لا تسهر، لا تشارك، لا تتكلم، لا تتأخر عن المراقبة الشهرية... وإلا ستعود إلى السجن فوراً."
 

قوانين بلا حماية.. من الإفراج القانوني إلى الاحتجاز الفعلي
   بحسب القوانين خاصة قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956 وتعديلاته، يجب تحرير أمر الإفراج في اليوم الأخير من العقوبة، ثم يُسلَّم المفرج عنه إلى قسم الشرطة التابع له لإتمام إجراءات إخلاء السبيل.
وفي بعض الحالات، يُعرض على جهاز الأمن الوطني لفترة "قصيرة" لا تتعدى ساعات.

لكن الواقع يتجاوز النصوص. فوفق شهادات حقوقية، تُنتهك القوانين في مراحل الإفراج، خاصة حين لا يتم إخطار أسر السجين بمكانه، أو حين يُحتجز لساعات وأيام دون سند قانوني، وهو ما يُعد "احتجازًا غير مشروعًا"، وفق المادة 280 من قانون العقوبات، و"إخفاءً إدارياً مؤقتاً" في حالات أخرى.

وتتكرر شكاوى المحامين والأهالي من عدم تمكينهم من التواصل مع المحكومين عقب انتهاء عقوبتهم، في انتهاك صريح لنص المادة 54 من الدستور المصري، التي تنص على "إبلاغ ذوي المحتجز بمكان احتجازه، وتمكينه من التواصل بمحام".
 

كعب داير.. المصطلح الأمني الذي يكشف المنظومة
   يستخدم ضباط الشرطة مصطلح "كعب داير" بشكل ساخر، لوصف الإجراءات الطويلة التي يخضع لها السجين قبل الإفراج، وهو ما يُترجم فعلياً إلى تنقلات مرهقة، غالباً دون طعام أو نوم أو قدرة على التواصل، بين مراكز وأقسام ومديريات، وربما محافظات مختلفة.

وفي حالات عدة، لا يُفرج عن السجين في يوم انتهاء مدة العقوبة، بل يُعاد تدويره على ذمة قضايا جديدة، أو يُجبر على توقيع إقرارات "تعهد بالابتعاد عن السياسة"، أو يُترك تحت المراقبة اليومية أو الشهرية، ما يجعله، عملياً، غير حر.
 

المراقبة الشرطية.. سجن مستمر بعد الإفراج
   حتى بعد الإفراج، لا تنتهي القيود. يقول "م. س" إن أحد أفراد الأمن أوصله إلى منزله، وطلب منه الالتزام بمواعيد المراقبة الشهرية، وهدده بالعودة للسجن إذا تأخر عن الحضور.

ويصف حقوقيون هذا الإجراء بأنه "مراقبة بوليسية تعسفية"، تُستخدم للسيطرة على السجناء السابقين وإبقائهم تحت الضغط، دون قرارات قضائية واضحة.