صرّح مصطفى مدبولي رئيس حكومة عبدالفتاح السيسي، بأن الدولة تسعى إلى "استثمار أصول الأوقاف بالشراكة مع القطاع الخاص"، لتتعالى بعدها موجة من الجدل والشكوك، دفعت الرجل نفسه للخروج مجددًا لنفي نية "بيع أصول الوقف"، مؤكدًا أن "مال الوقف مال خاص"، والهدف هو فقط "تعظيم موارد وزارة الأوقاف".
لكن تلك التصريحات، بدلًا من أن تطفئ النيران، زادت من اشتعالها، وفتحت مجددًا واحدًا من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في الإدارة الاقتصادية للدولة: ملف أصول الأوقاف.
في بلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة وعجز مستمر في الموازنة، تُطرح أصول الأوقاف التي تُقدّر قيمتها السوقية بأكثر من ثلاثة تريليونات جنيه – كفرصة ضائعة تُهدر بين سوء الإدارة، والتعديات، والتشريعات المعطوبة.
أصول ضخمة تشمل ملايين الأمتار من الأراضي، وعشرات آلاف الوحدات السكنية والتجارية، لكنها لا تُدر على الدولة أكثر من 3.5 مليارات جنيه سنويًا – أي أقل من 0.2% من قيمتها الحقيقية.
فما الذي يعوق تحويل هذه الثروة "المحبوسة" إلى مصدر حقيقي للدخل والتنمية؟ ومن يتحمّل مسؤولية الإهدار المزمن في هذا الملف؟
خريطة الثروة المنسية.. كنوز على الورق
تملك هيئة الأوقاف ما يزيد على 106 آلاف فدان من الأراضي الزراعية، إلى جانب نحو 4.7 ملايين متر مربع من الأراضي الفضاء داخل المدن، وما يزيد على 120 ألف وحدة عقارية بين سكنية وتجارية وإدارية، موزعة على كل محافظات مصر.
لكن القاهرة وحدها، مثلًا، تحتضن كتلة ضخمة من العقارات الوقفية في مناطق ذات قيمة مرتفعة مثل السيدة زينب، الجمالية، الأزهر، والدرب الأحمر، بينما تحتل الجيزة المرتبة الثانية بأراضٍ شاسعة على طرق استراتيجية ومبانٍ ذات طابع استثماري.
حتى المحافظات الحدودية مثل شمال سيناء ومطروح والبحر الأحمر، تضم أراضي نادرة وقيمة، كثير منها غير مستغل فعليًا، أو يعاني من مشكلات تسجيل ومنازعات.
وبالرغم من هذه الحيازة الضخمة، فإن الهيئة تُدار بأساليب ورقية، ويعتمد جزء كبير من سجلاتها على مستندات غير مميكنة، ما يجعل تتبع الأصول واستثمارها تحديًا قانونيًا وإداريًا، في دولة تتحدث صباحًا ومساءً عن الرقمنة والتحول الرقمي.
أرباح تتبخر.. وثروة تنزف
أرقام العائدات لا تعكس بأي حال من الأحوال حجم الأصول. إذ لا تتجاوز العائدات السنوية للهيئة 3.5 مليارات جنيه، رغم أن القيمة السوقية تُقدَّر بثلاثة تريليونات جنيه.
أي أن الأوقاف تدر عائدًا سنويًا يعادل أقل من نصف في الألف من قيمتها الحقيقية.
ويرجع ذلك إلى شبكة معقدة من العقود القديمة، والتعديات غير المُعالجة، وضعف التحصيل، وسوء التعاقد.
نحو 60% من العقارات الوقفية تُدار بعقود إيجار قديمة، بعضها يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، بإيجارات لا تتجاوز 10 أو 12 جنيهًا شهريًا، لعقارات قد تُدر أرباحًا بعشرات الآلاف من الجنيهات للمستأجرين.
كما تكشف التقارير عن ديون متراكمة لدى الهيئة تصل إلى 5.7 مليارات جنيه، منها مليارات لم تُحصَّل منذ أكثر من عقد. وتخسر الهيئة سنويًا نحو 1.2 مليار جنيه نتيجة الفرق بين الإيجار الفعلي والسعر العادل.
بيروقراطية مُعطّلة وشراكات هشّة
حتى حين تسعى الهيئة إلى تفعيل شراكات استثمارية، تُقابل بعقبات كبيرة. إذ تفتقر إلى ذراع تنفيذية مالية مستقلة، ولا تمتلك قدرة تفاوضية قوية أمام كبار المستثمرين، حيث تدخل أغلب الشراكات بحصة "عينية" فقط – الأرض – دون تمويل مباشر، ما يُضعف نصيبها من الأرباح، ويفتح الباب أمام التنازل الضمني عن القيمة السوقية الحقيقية.
وقد سبق أن رصدت هيئة الرقابة الإدارية ملاحظات صريحة على افتقار نماذج الشراكة الحالية إلى الشفافية والرقابة، خاصة في تقييم الأصول وتوزيع الأرباح.
إذ لا توجد معايير معلنة لاختيار الشركاء، ولا يُعرض أي شيء على البرلمان أو المجتمع.
تعديات بلا رادع.. وقوانين لا تُنجز
التعديات على أراضي الوقف تُمثل الوجه الآخر لفوضى الأصول. أكثر من تسعة آلاف حالة تعدٍ موثقة – تشمل بناءً غير مرخّص، وتغيير نشاط، واستيلاء مباشر – وفق أرقام الهيئة في مارس 2024.
لكن الحملات الحكومية لاستعادة هذه الأراضي تصطدم بعوائق متكررة، منها الممانعة الاجتماعية، أو غياب حصر دقيق، أو حتى نزاعات بين جهات سيادية ومحلية حول تبعية الأراضي.
في الصعيد، على سبيل المثال، تتحول أراضٍ وقفية زراعية إلى مشاريع خاصة تُدار فعليًا خارج رقابة الهيئة، في ظل صمت تشريعي، وقصور قانوني يتيح التلاعب بالعقود.
ومع ذلك.. هناك أمل
في المقابل، ظهرت نماذج ناجحة تُثبت أن الأوقاف يمكن أن تتحول إلى محرك تنموي.
مثل مشروع مجمع السنية الوقفي في السيدة زينب، الذي حوّل أرضًا مؤجرة ببضعة آلاف من الجنيهات إلى مشروع يُدر أكثر من 30 مليون جنيه سنويًا.
أو أبراج المحمودية في الإسكندرية، التي نجحت في إعادة توظيف أرض فضاء إلى مشروع تجاري وسكني مربح.
أو حتى تجربة الاستصلاح الزراعي الوقفي في الفيوم، التي ضاعفت العائد من الفدان ثلاث مرات.
لكن هذه التجارب، رغم نجاحها، لم تتحول إلى قاعدة، بل بقيت استثناءً، لأن المنظومة ككل ما زالت تفتقر إلى جهاز استثماري محترف، وقانون حديث، وهيكل تمويلي مستقل.
من يعيد "المال المحبوس"؟
لم تكن أزمة أصول الأوقاف يومًا في نقص القيمة أو غموض الملكية، بل في نمط مزمن من الجمود الإداري، والقصور التشريعي، واللامسؤولية السياسية.
فما يتجاوز ثلاثة تريليونات جنيه من الأراضي والعقارات الوقفية الموزعة على خريطة مصر لا تزال تُدار بعقلية "الدفتر والسجل الورقي"، بينما تُترك فرص الاستثمار والتشغيل لعقود مؤبدة بإيجار جنيهات، وتعديات لا تُرد.
الوقائع التي تكشفها الوثائق الرسمية والتصريحات الحكومية وتقارير الرقابة تؤكد أن ملف الأوقاف ليس مجرّد ثروة معطلة، بل مرآة صريحة لعجز الدولة عن التحول من الحيازة إلى التمكين، ومن التجميد إلى الإنتاج. النماذج الناجحة موجودة، لكنها محاطة ببحر من الفشل المؤسسي، والبيروقراطية الجامدة، والمصالح المتشابكة التي تعيق أي إصلاح حقيقي.
ليس المطلوب الآن خططا نظرية جديدة، بل قرارات سيادية جريئة تُنهي عهد الإهمال، تبدأ بتعديل جذري لقانون الوقف ليواكب بيئة الاقتصاد الحديث، وتنتهي بتأسيس كيان اقتصادي مستقل لإدارة الأصول، يُعامل كما تُعامل الصناديق السيادية، ويخضع لرقابة البرلمان والمجتمع، لا لوصاية بيروقراطية.