في قلب القاهرة حيث يختلط التاريخ بالضجيج والهوية الشعبية بالإرادة الرسمية، تدور معركة صامتة قد تبدو في ظاهرها مجرد "تجميل" حضري، لكنها تخفي في جوهرها صراعاً بين الثقافة والربح، بين الذاكرة والامتياز التجاري.
إنها قصة تفكيك ما تبقى من سور الأزبكية، السوق الثقافي الأقدم في مصر، لصالح مشروع "تنظيمي" جديد لا يحمل من الثقافة سوى ذكراها، ومن السوق إلا اسمه.
"تجميل" العتبة.. على حساب الكتب
بحجة تطوير محيط ميدان العتبة والمسرح القومي، شرعت الجهات المعنية منذ عام 2022 في تنفيذ خطة لإعادة توزيع الأنشطة التجارية في المنطقة.
لكن التنفيذ العملي كشف أن المقصود بالتنظيم هو في الحقيقة تفريغ المكتبات الشعبية من مواقعها لصالح تجار الملابس والأحذية والإكسسوارات.
فالكتب لا تدر دخلاً كافياً، والمكتبيون لا يدفعون إيجارات مرتفعة، على عكس نظرائهم من تجار التجزئة.
رمضان، أحد أقدم باعة الكتب في العتبة، يقول: "قالوا لنا سيتم تحسين وضعنا ونقلنا إلى مكان أفضل، لكننا نعلم أن المكان الحالي سيُمنح لتجار آخرين... نحن لا ندفع إيجارات مرتفعة مثلهم".
صراع غير متكافئ.. المعرفة لا تُربح
على الرغم من وعود بعدم رفع الأسعار أو فرض رسوم جديدة، تسود حالة من التوجس بين الباعة.
يقول مصطفى، صاحب مكتبة: "من يضمن ألا نُفاجأ بعد أسابيع من النقل بعقود جديدة، أو برسوم نظافة وصيانة؟"، مضيفاً: "نحن نبيع كتباً بـ10 و15 جنيهاً. كيف نقارن بمن يبيع أحذية بألف جنيه ويدفع إيجاراً خيالياً؟".
ويحذّر عم محمد، صاحب مكتبة أخرى، من تداعيات النقل: "كنا نوفّر كتباً دراسية بأسعار معقولة للطلاب. بعد النقل، سيضطر كثيرون إلى المكتبات الكبرى أو الإنترنت، حيث الأسعار أعلى بكثير".
كتب الفقراء في مهب الربح
يأتي هذا التحول في وقت تشهد فيه البلاد أزمة اقتصادية متفاقمة وانهياراً في القوة الشرائية.
كثير من الأسر والطلاب يعتمدون على الكتب الرخيصة من سور الأزبكية كملاذ أخير للعلم والثقافة.
يقول أحد الزبائن: "لا أستطيع دفع 400 أو 500 جنيه في كتاب جامعي، فأجده هنا بـ70 فقط. هذه المكتبات ليست رفاهية، بل ضرورة تعليمية".
لكن يبدو أن "ضرورة الربح" باتت أولى لدى السلطات.
ويقول أشرف عبد الغني، أحد رواد المكتبة: "المكتبة ليست مجرد سلعة، بل ذاكرة جماعية، وحاضنة حوار. نقلها إلى كشك مجهول يعني قتل هذه الروح".
ثقافة العلاقة.. لا البضاعة
تجربة سور الأزبكية ليست جديدة على معاول "التطوير"، فقد بدأت في 1907، وتحولت إلى كيان ثقافي رسمي عام 1949 بقرار من مصطفى النحاس.
ورغم تجديد السور في 1998، إلا أن السنوات الماضية شهدت تقليصاً ممنهجاً لمساحته، وتهميشاً متصاعداً لدوره، ليُعاد اليوم تفكيكه بالكامل تحت لافتة "الاستثمار الأمثل للمكان".
السيد أحمد، أحد الباعة، يقول: "نحن لا نبيع سلعة سريعة. نحن نخلق علاقة طويلة مع الزبائن. كثير منهم يعودون ليس للشراء فقط، بل للاستشارة والنقاش. هذه العلاقة لا يمكن نقلها إلى كشك بلا روح".
القيمة غير المنظورة
في الظاهر، بيع الكتب في أكشاك غير مربح، لكن الأثر غير المباشر لهذا النشاط على الاقتصاد المحلي والتعليم والتنشئة لا يُقدّر بثمن.
البائعون هنا ليسوا تجاراً فقط، بل مرشدون معرفيون. ويقول مصطفى: "كل من يعمل هنا يقرأ قبل أن يبيع. نحن نرشّح كتباً ونناقشها. نخلق فضاء للمعرفة".
لكن يبدو أن هذا الفضاء يُطوّق الآن بسياج من التهميش. من السوق الثقافي المفتوح، إلى "كشك تجاري" معزول عن الذاكرة والمكان والجمهور.