قبل عقود قليلة، لم يكن بيت ريفي في مصر يخلو من حمار. لم يكن مجرد دابة تُستخدم للحرث أو النقل، بل كان عنصراً أصيلاً في نسيج الحياة اليومية، يقف أمام البيوت كتفًا إلى كتف مع الطلمبة وطابونة الخبز، كان الحمار جزءًا من العائلة، يسمعهم و"يحكي معهم"، ويشاركهم تفاصيل الحياة القاسية، لكن هذا المشهد، الذي شكل ملامح الريف المصري لعقود طويلة، يوشك على الاختفاء.
 

ذاكرة تُمحى
   في قرى مثل "أبيس" في الإسكندرية، لا يزال بعض الفلاحين يحنّون إلى زمن الحمار.
يقول عيد عبد الموجود، وهو جالس أمام بيته الزراعي الخالي إلّا من بقايا جرن مهمل وعربة صدئة: "كان عندي ثلاثة حمير... واحد يحرث، واحد يشيل، وواحد حمار البيت، دلوقتي عندي ماكينة.. بس ما بتفهمنيش، ولا بكلمها وقت الزعل".
 

تراجع مدفوع بالأزمات
   تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد الحمير في مصر تراجع من نحو 3 ملايين إلى أقل من مليون فقط، وفق نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، الذي يُرجع ذلك إلى تزايد عمليات الذبح لأغراض التصدير، بجانب التحولات الاقتصادية التي دفعت الفلاحين نحو الميكنة والتخلي عن "الحيوان الصبور".

لكن الأزمة لا تقف عند حدود التراجع العددي، بل تتشابك مع مشكلات أكثر خطورة، أبرزها التجارة غير القانونية بلحوم الحمير، وتهريب جلودها إلى الخارج، خاصة إلى الصين، لاستخدامها في تصنيع عقار "إيجياو" التقليدي المعروف بصفاته الطبية.
 

تجارة سوداء بغطاء رسمي
   رغم نفي الحكومة إصدار تراخيص لتصدير الحمير الحية، فإنها تعترف بوجود استثناءات تسمح بتصدير جلودها بعد الذبح تحت إشراف بيطري في مجازر معينة.
لكن ضعف الرقابة، وغياب عقوبات رادعة، سمح بانتشار مزارع سرية تذبح الحمير وتبيع لحومها على أنها لحوم أبقار، كما حدث في وقائع مسجلة بمحافظات الإسماعيلية وسوهاج.

ويكشف مسؤول بيطري في الإسكندرية -فضّل عدم ذكر اسمه– أن الرقابة "لا تستطيع الإحاطة بكل هذه الأنشطة، خصوصًا مع اتساع المساحات الزراعية وصعوبة التفتيش اليومي".
 

لحوم مجهولة على موائد المصريين
   أثارت حوادث متكررة لضبط لحوم حمير معدّة للبيع في الأسواق ذعرًا شعبيًا واسعًا، وسط غياب قانون واضح يُجرّم هذا النوع من الغش التجاري.
تقول دينا المحلاوي، الناشطة في مجال حقوق الحيوان: "الحمير تذبح في الخفاء، وتُرمى لحومها على موائد الناس. والكارثة أن لا أحد يهتم. هذا الحيوان المسالم يدفع ثمن الإهمال والفساد".

وتوضح أن العقوبات الحالية لا ترتقي إلى حجم الجريمة، مطالبة بتعديل قانون العقوبات المصري لتضمين مواد صريحة تحظر ذبح الحمير لأغراض استهلاكية أو تجارية، وتغليظ العقوبات على من يروج أو يبيع لحومها.
 

من الذاكرة إلى السخرية
لكن ما يجعل انقراض الحمار فاجعة ثقافية بقدر ما هو بيئي، هو رمزيته التاريخية في وجدان الشعب.
يقول الدكتور طارق سعيد، أستاذ التراث الشعبي: "الحمار كان رمزًا للمثابرة والكدح، ورد في الأمثال، وفي الأغاني، وفي كتب المدارس القديمة، كان رفيق الفلاح والطفل، اليوم، صار مجرد شتيمة".

ويضيف أن اختفاء الحمار لا يعني فقط فقدان كائن بيئي، بل تآكل جزء من هوية الريف المصري الذي كان يشكل قاعدة الشخصية الوطنية لعقود.
 

لا حماية... ولا استراتيجية
   في ظل غياب أي استراتيجية حكومية لحماية الحمار، يزداد الخطر المحدق بانقراضه، سعر الحمار المنخفض، والذي لا يتجاوز في كثير من الأحيان 5 إلى 15 ألف جنيه، مقارنة بسعر الجلد الذي يتجاوز 300 دولار، يجعل ذبحه أكثر ربحًا من تربيته، وفق ما يوضحه نقيب الفلاحين.

ويحذّر خبراء من أن استمرار هذه الظاهرة دون تدخل عاجل سيقود إلى انقراض هذا الحيوان خلال سنوات قليلة، في مشهد يُجسّد ليس فقط فشل السياسات الزراعية، بل أيضًا فقدان جزء من الذاكرة الجمعية للمصريين.