في الأيام الأخيرة، أصبحت قضية "عصابة المواليد الجدد" محط اهتمام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في تركيا، بعد إعلان الشرطة عن القبض على 22 شخصًا من أصل 47 مشتبهًا بتورطهم في شبكة معقدة تضم أطباء، ممرضين، وموظفين في القطاع الصحي. وُجهت إليهم اتهامات خطيرة تتراوح بين القتل غير العمد لـ 12 طفلًا، الاحتيال على مؤسسة التأمينات الاجتماعية (SGK)، وتزوير وثائق ومستندات طبية.
هذه الفضيحة التي لا تزال التحقيقات فيها جارية، أثارت موجة من الغضب الشعبي في تركيا، ليس فقط بسبب الأبعاد القانونية، بل لما انكشفت عنه من استغلال لضعفاء المجتمع، وخاصة الأطفال حديثي الولادة، بهدف تحقيق مكاسب مالية على حساب حياتهم.
الجذور الأولى للقضية
تعود القضية إلى مايو 2023، عندما تقدمت والدة أحد الأطفال المتوفين في ظروف غامضة بعد إقامته لمدة ثلاثة أشهر في مستشفى خاص في منطقة أفجيلار بإسطنبول بشكوى رسمية إلى مركز "CİMER"، وهو خط مخصص لتلقي شكاوى المواطنين ومراقبته من قبل دائرة الاتصال بالرئاسة التركية. وقد أدى ذلك إلى فتح تحقيقات واسعة النطاق من قبل وزارة الصحة التركية، التي بدأت تتعمق في ملف المشفى المذكور.
الصحفي التركي أمر الله أردينتش كان من أوائل من اهتموا بتفاصيل هذه القضية. وبدأ منذ نحو ستة أشهر تحقيقًا استقصائيًا كشف من خلاله عن وجود شبكة معقدة تتألف من أطباء، ممرضين، وسائقي سيارات إسعاف. وكشفت تحقيقات الشرطة، التي استمرت 18 شهرًا، عن تورط هذه العصابة في 197 نشاطًا إجراميًا موثقًا ضمن تقرير رسمي يتألف من 30 مجلدًا.
أساليب الاحتيال المتبعة
أظهرت التحقيقات أن "عصابة المواليد الجدد" استغلت نظام الطوارئ الطبي في تركيا لتحويل الأطفال من مستشفيات حكومية إلى مستشفيات خاصة، متواطئة مع العصابة. كان يتم استغلال القانون الذي يسمح بتحويل الحالات الطارئة إلى المستشفيات الخاصة لتغطية تكاليف العلاج عبر مؤسسة التأمينات الاجتماعية، حيث كان أعضاء الشبكة يحصلون على 40% من أموال التأمين.
ومن خلال تزوير الوثائق الطبية الخاصة بالأطفال، كانت العصابة تحتفظ بهم لفترات أطول في المستشفيات الخاصة، وتقوم بتقديم تحاليل وفحوصات طبية مزيفة، فضلًا عن وصف أدوية باهظة الثمن لم تُقدم فعليًا للأطفال، بل يتم بيعها في السوق السوداء لتحقيق أرباح إضافية. وتشير التقارير إلى أن العصابة قد تمكنت من جمع نحو مليار ليرة تركية خلال فترة نشاطها.
عواقب مميتة
نتيجة للإهمال الطبي والتزوير، لقي 10 أطفال حتفهم في ظروف مأسوية، حيث كشفت التحقيقات أن المستشفيات التي نُقل إليها هؤلاء الأطفال لم تكن مجهزة طبيًا بشكل كافٍ. وأدى الإبقاء على الأطفال في الحضانات لفترات أطول من المطلوب إلى تعرضهم لعدوى أو تناول أدوية غير مناسبة، مما ساهم في وفاة العديد منهم.
وفي أحدث التحقيقات، تم توجيه اتهامات إلى 47 شخصًا، من بينهم الطبيب فرات صاري، الذي وُصف بأنه زعيم العصابة.
من الجدير بالذكر أن صاري كان قد أُدين سابقًا بالانتماء إلى حزب العمال الكردستاني المصنف كجماعة إرهابية في تركيا، وقضى نحو خمس سنوات في السجن على خلفية تلك العضوية.
إجراءات حكومية عاجلة
أعلن وزير الصحة التركي كمال مميش أوغلو أن السلطات قامت بإغلاق ومعاقبة 10 مستشفيات خاصة حتى الآن، كما تعهد بمواصلة التفتيش على المؤسسات الصحية بلا توقف لضمان عدم تكرار مثل هذه الفضائح في المستقبل. وقال الوزير: "نتعامل مع عصابة مجرمة تجاهلت حياة الأطفال لتحقيق مكاسب مادية، ولن نسمح لأحد بتشويه نظامنا الصحي".
كما أعلن وزير الداخلية علي يرلي كايا أن التحقيقات المشتركة بين وزارات الداخلية، العدل، والصحة مستمرة، وأن السلطات تعمل على تتبع أي ارتباطات أخرى بالشبكة.
الضحايا السوريون
إحدى النقاط المثيرة للجدل في هذه القضية هي تسجيلات المحادثات التي نشرها الصحفي أمر الله أردينتش، والتي كشفت عن استغلال العصابة للأطفال السوريين. في إحدى المحادثات، يوجه الطبيب فرات صاري تعليمات لأفراد الشبكة بإغلاق ملف مولود سوري قائلاً: "العائلة سورية.. لا تقلقوا من العواقب القانونية". وقد أظهرت المحادثات أن العائلات السورية لم تكن تقدم شكاوى خوفًا من الترحيل، مما سهل على العصابة استغلال وضعهم الهش.
تداعيات القضية
قضية "عصابة المواليد الجدد" أثارت موجة من الغضب والقلق في المجتمع التركي، وسط دعوات لإصلاحات جذرية في النظام الصحي وتعزيز الرقابة على المستشفيات الخاصة. في الوقت نفسه، تتواصل التحقيقات لضمان محاسبة جميع المتورطين في هذه الفضيحة التي هزت ثقة الناس في القطاع الصحي.
تبرز هذه القضية كمثال صارخ على الفساد المستشري في بعض القطاعات الحيوية، حيث تم استغلال حياة الأطفال الأبرياء لأجل جني الأرباح.