لاشك أن مجتمعاتنا العربية بها الكثير من الظواهر الحياتية وكل ظاهرة بها مميزات وعيوب ولها وعليها، ومن ضمن تلك الظواهر ظاهرة "العنوسة".

والعنوسة كتعريف عام ومحل اتفاق هو لفظ يطلق على الفتيات والشباب الذين تجاوزوا سن الزواج طبقا لأعراف كل بلد، فضلاً عن خصائصه الاجتماعية.

وهو أمر نسبي يتفاوت بين المجتمعات الريفية والقروية، فقد يبدأ عند البعض من سن الرابعة والعشرين مثلاً وفي مجتمعات أخرى أعلى من ذلك بقليل، وهو إجمالا مرتبط بما تعارف عليه المجتمع.

ونحن اليوم سنلقى الضوء عبر نظرات بسيطة في أسباب هذه الظاهرة المجتمعية والموجودة ولامجال هنا للنكران، فالأمر في محيط كل منا:

النظرة الأولى " الوضع الاقتصادي"

لعل من أهم أسباب هذه الظاهرة هو الوضع الاقتصادي، وتلك طامة كبرى ومأساة حقيقية، وعلى المستوى الشخصي وعبر حوارات كبيرة وممتدة مع الكثير من الشباب وبمجرد بدء إشارات في أمر الزواج يكون الرد "من أين؟؟" وهو ترجمة لحالة فقر أو إن شئت فقل ظروف ضيقة ويد ضعيفة ودخل محدود.

ثم مطلوب من هذا الشاب أن يأت بشقة وأثاث ومتاع فضلا عن قسوة المجتمع وتشدد أهل الفتيات وتلك طامة أخرى، فإذا كنا ننادي بالترشيد، فالكثير قد ينادي ولايرشد بل تجده عند زواج إحدى بناته يتشدد ويطلب ما يفوق قدرة الشاب الطامح للعفاف والعفة، بل يتمادى ويضرب الأمثلة بالأقارب والأقران، وعليه فليضع كل منا نفسه في موضع هذا الشاب الذي شاب قبل مشيبه من كثرة الأعباء ومساعدة الأهل.

ونحن نهمس في أذن كل أب يتقدم إليه شاب يريد النسب والقرب، أن اتقوا الله في الشباب، وخففوا وارفقوا وسهّلوا ولاتعسروا كذلك، ونحن إذ ننادي بالتيسير نحذر من إكراه الفتيات على القبول بالأمر خشية المكوث طويلا في حقل العنوسة فتوافق الفتاة إجباراً وكرها، وتحت ضغط الوالدين فتتزوج شخص لا يتوافق معها وبينهما مسافات في التواصل، فتحدث الكارثة بعد سنوات أو شهور وتحصل على لقب "مطلقة" فعالجنا الداء بالسم من حيث نظن أننا وصفنا الدواء الشافي!

وهناك جانب آخر في الوضع الاقتصادي مهم قليلا، وهو أزمة كورونا فقد أضحت البساطة والتيسير في النفقات أمراً حتمياً خشية الوقوع في داء العدوى منه، فأغنت ورفعت عن كاهل الشباب الكثير من مظاهر البذح الذي كان بلا قيمة حقيقية، ورفعت عنه الحرص على عمل عرس في قاعات بآلاف الجنيهات، وتلك محمدة تقلل من ظاهرة العنوسة التي ترتبط في كثير من أسبابها بالوضع المادي.

ونحن لا نمتدح الداء لكن نشرح واقعاً جديداً فُرض علينا.

النظرة الثانية "إكمال التعليم"

إن الكثير من فتياتنا تفضل الاستمرار في التعلم وطلب العلم والسعي لتحصيله والترقي في درجاته على أن تتزوج، وهذا أمر يجمع بين الطموح المشروع، وسوء التصرف خصوصا مع توابعه، فمثلا ما إن تنتهى من الماجستير أو تحصيل الدكتوراة فبالتبيعة لاتقبل ماهو دونها في العلم وإن كان هذا حقها من باب الكفاءة، لكنها وفي نفس الوقت لاتشعر بأن قطار العمر يمر سريعاً وقد يتجاوزها السن، وفجأة تكتشف أنها تخطت الثلاثين أو تجاوزته بقليل، ونحن في مجتمعاتنا أو بعضها نشعر بالقلق بمجرد أن تصل الفتاة لسن الخامسة والعشرين ولا يأتيها ذلك الفارس المنتظر.

وعليه فإننا ننادي كل فتاة أن تُحسن الفهم للحياة، ولا تكن وحدوية النظرة، فلا ضرر أن تتزوج وتتعلم طالما هناك توافق في العقول والآراء مع الزوج، والشباب يقدّرون الفتاة الطامحة لتطوير ذاتها فيمكن أن تكتفي الفتاة مبدئياً بدرجة الليسانس أو البكالوريس، ثم أكملِي حسب رغبتك ولكن في مملكتك فضلا عن كامل الحق أن تشترطي على زوجك أنك صاحبة همة وستكملين دراستك، والأمر بها واسع وسعة فلا تقيّديه أو تضيّقيه.

النظرة الثالثة " أزمة أخلاق"

بوضوح شديد وفي ظل الثورة المعلوماتية والتقنية والتطور الهائل في وسائل التواصل الاجتماعي فقد أصبح الكثير من الشباب والفتيات يفكرون في الارتباط بشكل تقني، وظهرت مسميات كزواج الأون لاين، والتعايش، ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان! وكلها نتيجة طبيعية لانحراف بوصلة القلب عن مراد الله والاغترار بالثقافة الغربية.

وماتحمله من فساد وإفساد صاحب كل هذا موجة إلحادية قوية، تدعو للحياة والتمتع بها بلا قيود أخلاقية أو عقائدية كما يقولون، وعليه فإن البيت يتحمل جزءاً كبيراً من هذه الأمر، فالتأسيس هنا واجب ومن شب على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء عاش عليه، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه ولذلك فلا مجال للتخلي عن المسئولية الأخلاقية والتربوية للوالدين، فهما هنا عمود الخيمة ورمانة ميزان الحياة لأولادهم فعلى كل أب وأم أن يقوما بدورهما في تأسيس وعي أخلاقي صحيح للأبناء منذ بلوغهم حتى يصلوا بهم لبر الأمان.

النظرة الرابعة "في انتظار الفارس"

قديما كن الفتيات يرددن في أفراح بعضهن أنشودة "فارس حلمك" والمعني بها هو ذلك الشخص المطلوب والمرغوب، وصفاته وسماته فضلا عن تربيته وعلاقته بربه، ونحن اليوم عندما تسأل الكثير من الفتيات عن صفات الزوج المنتظر يتحدثن بشيء من الخيال وبشكل صريح يبالغن في المواصفات والكثير ما تكون مادية، ونحن لانجرّم الأمر لكن ندق جرس الإنذار بأنه ليس كل مايتمناه المرء يدركه، وأن السعادة الحقيقية ليست كلها في المال، فقد يأتي صاحب المال ولكنه معدوم الخلق والدين، فتتحول الحياة لجحيم، وهناك الكثير جدا من الشهادات في هذا الخصوص والتي كانت نهايتها مؤلمة ليس فقط للفتاة لكن أيضا للأسرة.

وعليه فإن الواقعية في الاختيار من عوامل حسن الفهم، وأن المسلسلات والأفلام التي تصور شريك الحياة مكتمل الأوصاف، هو تدليس للوعي وتلاعب بالفتيات، وإن كنا لا نحرم حق الفتاة وكذلك الشاب في الحصول على رفيق للحياة بشكل مثالي ومناسب، إلا أننا نؤكد أن الكمال ليس في دنيا الناس، وأن البشر ذوي خطأ وأصحاب زلات ولدينا مساويء وعيوب، كما أن لدينا مميزات وإيجابيات، والواعى هو من يدرك ذلك، ويسعى في تطوير ذاته بحضور الدورات أو قراءة الكتب التي تتناول فن الحياة الزوجية والاستماع لخبرات السابقين، فضلا عن التبحر في كتب ومراجع الحياة وفنونها، حتى تسير حياته بتفاهم وسعادة وتواصل جميل.

النظرة الأخيرة " بريق الهجرة"

إن الكثير من الشباب عندما تحدثه عن طموحه يتحدث عن رغبته في الهجرة للخارج، ويضرب أمثلة بدول مثل كندا أو ألمانيا ويمتدح النظام الغربى، وخاصة الزواج من حيث قلة التكاليف واليسر ويؤكد أن هذا هو الأصل، ونحن لانتحدث في الأمر من جانب الرضا، بقدر ما نحصي أسباب الظاهرة أو نسلط الضوء على أكثر هذه الأسباب انتشارا، والهجرة ليست جرما بل ربما تكون مميزاتها كثيرة لكن الزواج من الأجنبيات ربما ليس كله خيرا، خاصة أنه غير ملزم أن تترك الزوجة دينها للزواج من مسلم، وإن كان ديننا يحلل الزواج من النصرانية، فإن الله تبارك وتعالى تحدث إلينا بأن الأمة المسلمة أفضل ولو أعجبتك الأجنبية، {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} [البقرة:221] لذلك فإننا ندق ناقوس الخطر بأن ليس كل مايلمع ذهباً والشاب الواعي هو من يؤسس نفسه في وطنه ويختار فتاة صالحة ويؤسس بيتاً مسلماً يضيف للدين قوة وصلابة.

ختاما..
نحن نضع بعض الأسباب ونعلق عليها من منظور اجتماعي يتماشى مع مجتمعاتنا بشكل بسيط وسلس أملين أن يصل للقاريء بنفس البساطة والسهولة.

 

--------------------------------------
*بقلم : يسري المصري