في خطوة وصفت بأنها "زلزال جيوسياسي" في القرن الأفريقي، جاء قرار إسرائيل بالاعتراف الرسمي بـ"صوماليلاند" (أرض الصومال) كدولة مستقلة، ليكشف عن أجندة استراتيجية بعيدة المدى تتجاوز العلاقات الثنائية التقليدية.

 

هذا الاعتراف ليس مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل هو حلقة في سلسلة تحركات مدروسة تهدف لإعادة هندسة النفوذ في منطقة البحر الأحمر وباب المندب، مستغلة حالة السيولة السياسية والضعف العربي، لزرع "خنجر" جديد يهدد الأمن القومي المصري من بوابته الجنوبية، ويحاصر النفوذ الإيراني، ويعزز تحالفات تل أبيب مع قوى إقليمية صاعدة مثل إثيوبيا والإمارات.

 

الدوافع الإسرائيلية واضحة: تأمين ممرات الملاحة بعيداً عن تهديدات الحوثيين، وخلق واقع جديد يضعف خصومها (مصر وتركيا) في أفريقيا، مستفيدة من توقيت مثالي يغيب فيه الردع العربي وينشغل فيه العالم بحروب غزة وأوكرانيا.

 

"عين على اليمن".. كسر الحصار ومراقبة باب المندب

 

المحرك الأول لهذا الاعتراف هو الهاجس الأمني الإسرائيلي المتزايد في البحر الأحمر. فمع تصاعد هجمات الحوثيين المدعومين من إيران على السفن المتجهة لإسرائيل، باتت الحاجة ملحة لموطئ قدم استراتيجي على الضفة المقابلة لليمن. صوماليلاند، بموقعها الحاكم على خليج عدن، توفر لإسرائيل منصة مثالية لنشر رادارات ومنظومات استطلاع تراقب حركة الملاحة في باب المندب، وتتيح لها الرد السريع أو حتى تنفيذ عمليات استباقية ضد التهديدات القادمة من اليمن، مما يكسر الطوق الذي تحاول طهران فرضه.

 

إضافة إلى ذلك، يمثل ميناء "بربرة" فرصة ذهبية لتنويع خطوط الإمداد الإسرائيلية، ليكون محطة لوجستية آمنة وبديلاً طارئاً في حال تعطل الملاحة عبر المضيق، وهو ما يعزز الأمن الغذائي والعسكري للدولة العبرية في أوقات الأزمات.

 

"تحالف المصالح".. الإمارات وإثيوبيا في قلب اللعبة

 

لم تكن إسرائيل لتتحرك منفردة دون غطاء إقليمي. الاعتراف يتقاطع بشكل مريب مع مصالح حليفين استراتيجيين لتل أبيب: الإمارات وإثيوبيا. فالأولى تستثمر مئات الملايين في ميناء بربرة وتسعى لتعظيم نفوذها البحري، والاعتراف الإسرائيلي يمنح هذا الاستثمار غطاءً سياسياً وأمنياً دولياً. أما الثانية (أديس أبابا)، التي تخوض صراعاً وجودياً مع مصر حول مياه النيل، فتسعى يائسة لمنفذ بحري، وهو ما توفره صوماليلاند.

 

هنا تكمن الخطورة الحقيقية على مصر: الاعتراف الإسرائيلي يقوي موقف صوماليلاند الانفصالي، مما يشجع إثيوبيا على المضي قدماً في اتفاقها المثير للجدل مع الإقليم، وبالتالي خلق محور (إسرائيلي-إثيوبي-إماراتي) يطوق مصر من الجنوب، ويستخدم ورقة "المياه والموانئ" للضغط على القاهرة في ملفات حيوية كالنيل وغزة.

 

تداعيات كارثية على مصر.. حصار مائي واقتصادي

 

بالنسبة لمصر، يمثل هذا التطور تهديداً "عالي الخطورة" على عدة أصعدة. أمنياً، يعني وجود إسرائيل في جنوب البحر الأحمر تهديداً مباشراً لقناة السويس، حيث يمكن لأي توتر مفتعل أن يؤثر على حركة السفن ويرفع تكاليف التأمين، مما يضرب إيرادات القناة التي تعد شريان حياة للاقتصاد المصري. مائياً، يعزز التحالف الجديد موقف إثيوبيا المتعنت في مفاوضات سد النهضة، حيث تجد أديس أبابا ظهيراً دولياً قوياً يدعم طموحاتها الإقليمية على حساب دول المصب.

 

سياسياً، يعد هذا الاختراق ضربة للنفوذ التقليدي المصري في القرن الأفريقي، واستنزافاً للدبلوماسية المصرية التي تجد نفسها مضطرة للقتال على جبهات متعددة (غزة، ليبيا، السودان، والآن الصومال). ورغم الرفض العربي والأفريقي الواسع للاعتراف، إلا أن الواقع الجديد يفرض على القاهرة تحديات غير مسبوقة تتطلب تحركاً يتجاوز بيانات الشجب، نحو استراتيجية شاملة تعيد بناء التحالفات وتستخدم أوراق الضغط المتبقية قبل فوات الأوان.