عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة

 

أعادت جريمة التحرّش المُروِّعة، في إحدى المدارس الخاصّة بالقاهرة، النقاشَ مجدّدًا بشأن سلامة بيئة التعليم في مصر، ومدى توافر الأمن داخلها، وخصوصًا أن الواقعة كانت صادمةً، وجرس إنذار، بما تحمله تفاصيلها من الانتباه، بل الفزع، إذ اتّفقت مجموعة من العاملين على ارتكاب الجرم المُشين بحقّ أطفال في مرحلة الروضة، أعمارهم بين ثلاث وست سنوات، مستخدمين أساليب الترهيب، باقتياد أطفال وتهديدهم بسكين، واعتيادهم لذلك، في ما يزيد على عام، ما دفع جهات التحقيق إلى توجيه تهمتَي الخطف وهتك العرض معًا.

 

وفي المشهد، ما يثير أسئلةً عن أدوار المؤسّسات الرسمية والجهات المعنية بالتعليم والطفولة، عدا عمّا في الواقعة من الريبة والشكوك حول تواطؤ الإدارة، وليس إهمالها وحسب، إذ كان أحد المتهمين مفصولًا سابقًا بسبب شبهات اعتداءات جنسية. ومع ذلك، عاد إلى العمل ليصبح ضمن قائمة المتّهمين التي اتسعت لتشمل سبعة أفراد، هذا إلى جانب محاولات التعتيم المحيطة بالمدرسة، من حجب صفحتها في "فيسبوك"، وحجب قسم الأخبار في موقعها الإلكتروني (قبل أن يُحجب في مصر)، بالإضافة إلى التكتّم على هُويَّة المالكين، أفرادًا كانوا أو مؤسّسة اعتبارية، ومطالبة محامي الأطفال بالتحفّظ على مسؤوليها، ومنعهم من السفر، وصولًا إلى حالات توقيف والتهديد بالإجراء نفسه بتهمة "بثّ أخبار كاذبة".

 

وخلال أسبوعين بعد انكشاف الواقعة، ارتفعت معدّلات الإبلاغ عن جرائم مماثلة، ووضعتها صحف في أجندتها، ما يعني نسبيًا الكشف عن غطاءٍ من صمت وخوف، وتردّد أحيانًا، منع المتضرّرين من التبليغ، وتكشّفت شجاعة المجتمع في مواجهة الأزمة ونقاشها بوصفها مشكلة مُؤرِّقة، يميل فيها أفراد المجتمع إلى التماثل، وتكون أكثر استجابةً واهتمامًا بوصفها همًّا مجتمعيًا، وخطرًا جاثمًا. لذا تتابع النشر، ليس لأن الحادثة "تريند"، بل لوجود وقائع مماثلة في مدارس من الإسكندرية إلى القاهرة، ومحافظات أخرى، وهو ما يكشف إحساسًا بأزمةٍ لا تنحصر في جغرافيا أو في تصنيف طبقي، وتنال من جوهر ما يُفترض أنه بيئة تعليم آمنة.

 

وفي المشهد ملاحظات جوهرية. المفارقة الواضحة أن حوادث شديدة القسوة، من حيث التكرار وعدد الضحايا، تقع غالبًا داخل القطاع التعليمي الخاص، الذي يتضخّم ويستوعب نحو 20% من إجمالي الطلّاب (25 مليونًا)، في مراحل التعليم ما قبل الجامعي. وتجاهد معظم الأسر لسداد التكاليف، بحثًا عن مستوى تعليمي أفضل، هربًا من مشكلات تكدّس الطلاب، وعدم كفاية عدد المعلّمين، مع أمل في حماية ومتابعة، وفي مساحة أكثر أمنًا لأبنائهم. ومع ذلك، إن تكرار العنف فيها يلقي الضوء على طبيعة العديد من المدارس، بوصفها مشاريع ربحية تجارية، تفتقر إلى قواعد ومتطلّبات الأمان، وغياب التدقيق الكافي في اختيار الموظّفين. ورغم أن القطاع، الذي يضمّ ما يزيد على 11 ألف مدرسة، يخضع لإشراف رسمي من وزارة التعليم، فإن تكرار حوادث بهذه الكيفية، خصوصًا بين طلاب المدارس الابتدائية ورياض الأطفال، يضع علاماتِ استفهامٍ حول معايير منح التراخيص، وتداخل الفساد والمحاباة لتسهيل التشغيل، والإهمال في أعمال الإشراف والمتابعة، خصوصًا تجاه أصحاب النفوذ منهم، من دون رقابة فعّالة على مدى التزام مؤسّساتهم سلامة الطلاب، وكفاءة العاملين ومناسبتهم للوظائف، وجدارة الإشراف فيها مقابل زيادة أرباحهم.

 

الملاحظة الثانية، أن مشكلة العنف الجنسي، بحكم التكرار، تتجاوز أنها حالات فردية، من حيث عدد الجناة، أو من وقع في حقّهم الانتهاك. فالحوادث السابقة، وحتى البيانات المحدودة المتاحة (رغم ندرتها) تقدّم صورةً مقلقةً عن حجم العنف في البيئة التعليمية. وبحسب دراسة ميدانية أجرتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، في عام 2015 في محافظات القاهرة والإسكندرية وأسيوط، على فئة عمرية ما بين 13 و17 عامًا، في 110 مدارس، تبيّن أن ما يزيد على 60% تعرّضوا للعنف الجسدي، وكان العنف الجنسي ضمنه، ما يقارب 5%، وفق شهادات الطلاب. وترجّح الدراسة أن تكون النسبة أعلى، لكن هناك حساسية في الحديث عن التلامس غير المرغوب، والانتهاكات الجسدية، بينما كان التحرّش اللفظي أكثر انتشارًا، والنتائج تتقارب مع دراسة أجرها أحمد النحّاس (2012) على عيّنة من طلاب جامعة سوهاج، حول خبراتهم في التعرّض للعنف الجنسي.

 

عالميًا، تفيد الإحصاءات بأن واحدةً من بين كل ثماني إناث تعرّضت للعنف الجنسي قبل سنّ الثامنة عشرة، مقابل واحد من بين كل 11 صبيًا. ومصريًا، تُظهر وقائع منشورة خلال عشر سنوات مضت شمول الاعتداء على الذكور، خصوصًا في مرحلتَي الروضة والابتدائية، وأن الجناة داخل المدارس من بين عمّال خدمات معاونة، ومعلّمين وإداريين. كذلك أظهرت دراسة الدكتورة نرمين عدلي، المعتمدة على بيانات الطبّ الشرعي (2005–2011)، تركّز الانتهاك على الذكور في الفئة العمرية من ست سنوات إلى 12 سنة، في عيّنةٍ بلغت 1832.

 

الملاحظة الثالثة، وأمام تكرار الوقائع، هناك محاولة إنكار وتهوين، وفشل سبل المواجهة، وسلوك اجتماعي يتجه إلى لوم أسر الضحية بوصفهم مسؤولين، عدا عن التعتيم أحيانًا. والمشكلة الأكبر هي التلاعب بسرد الوقائع بهدف الدفاع عن الجناة وتبرئة الإدارة أو السلطة من مسؤوليتها، وإخافة ذوي الطلاب، وما بين ذلك استغلال بعض القضايا وتوظيفها سياسيًا وطائفيًا، ومنها واقتي النزهة ودمنهور، إذ بُثَّت دعايةٌ مضادّةٌ ضدّ أولياء الأمور بوصفهم منتمين سياسيًا إلى التيار الإسلامي، سلفيين أو "إخوان"، يشنّون هجومًا على أصحاب المدرسة لأنهم أقباط. ومع ذلك، أثبتت التحقيقات عكس ذلك في الحالتَيْن، وصحّة الشكوى. غير أنه ليس من المنطق أن تُخضع الأُسَر أبناءها تحت ضغوط هائلة من أجل المكايدة، بل أفادت صحيفة أنه بين أولياء مدرسة النزهة ثلاثة ضبّاط تحرّكوا واحتجّوا على محاولات تصوير الجناة ضحايا "اضطهاد ديني"، وضدّ محاولات قلب الرواية والتخويف، بما يجعل المجرم محلَّ تعاطف بدلًا من الإدانة.

 

وفي واقعة دمنهور، قبل ستة أشهر، اعتدى مراقب مالي مسنّ على طفل يبلغ تسع سنوات من العمر (بمعاونة آخرين)، وحكم عليه بالسجن المُشدَّد، لكن التلاعب واستغلال الحدث تجاوزا الواقع المحلّي، فأعلنت مجموعة طائفية ترفع رايةً حقوقيةً (وفي تجاهل لفداحة الجرم وإثباتات النيابة) روايةً تصوّر الأمر اضطهادًا دينيًا في جلسة استماع حول الأقليات في إحدى قاعات الأمم المتحدة. وفي الواقعتَيْن تجارة رخيصة للدفاع عن الجناة، ما يظهر العوار في طريقة نقاش مثل هذه الجرائم، وتوظيفها سياسيًا تغطيةً على الأزمة، ودفاعًا عن الجناة وفقًا لديانتهم، ما ينطوي على خداع ومحاولة إنكار الجرم.

 

الملاحظة الرابعة، تتعلّق بأساليب المواجهة، التي يردّد ذكرها المعلّقون، والبيانات والتصريحات، ومنها المجلس القومي للطفولة والجامع الأزهر، وتطالب بتشديد العقوبات وسيلةً للردع. ومع أهمية ذلك، يُعتبر الاعتماد على العقوبة وحدها نوعًا من الاستسهال، وتهدئة الضمير، ويغطي على أسئلةٍ لا بدّ أن تُطرح عن سياسات حماية الطفل، وسلامة البيئة التعليمية، ودور الجهات الحكومية في تنفيذها، كما يغفل هذا المنظور الجانب الأساسي: الوقاية، التي تحدّ من الجرم وتسبق الردع، وتشمل إجراءات تعكس الغايات ومنها التعامل بجدّية مع أيّ شكوى أو سلوك مشبوه، للحفاظ على بيئة تعليمية آمنة وتقليل المخاطر.

 

أمّا العقوبات المُشدَّدة، فهي موجودة بالفعل، بما يشمل الإعدام والسجن المُشدَّد، ومع ذلك تستمرّ الجرائم، لأن مصادر الخطر قائمة، والإجراءات الاستباقية للحدّ منها ضعيفة، مع إدراك صعوبة القضاء عليها نهائيًا، ووجودها بدرجات أكبر في بلدان أخرى، لكن يمكن الحدّ من فرص وقوعها. أمّا الاستناد إلى العقاب وحسب في مقابل تهميش إجراءات الوقاية، فيعني انتظار وقوع الجريمة وتكرارها مع بقاء ظروف تسهل حدوثها. لذا يجب التركيز على ملاءمة السياسات وكفاية الإجراءات الوقائية.

 

ومن خلال رصد عينة من هذه الجرائم، هناك حالات لجناة عوقبوا بالنقل الإداري إلى مدارس أخرى في القطاع الحكومي للشكّ في سلوكهم تجاه الطلاب، وبعدها كرّروا الجرم نفسه، ما يعني أن هناك ضرورةً لتغيير صيغ المواجهة، وإقصاء أيّ شخص يثبت جنوحه لممارسة العنف الجنسي، ومنعه من التعامل مع الأطفال والمراهقين، سواء في المدارس العامة أو الخاصّة.

 

يستوجب هذا المشهد المؤذي الذي يترك تبعات نفسية واجتماعية طويلة الأثر على الأطفال وذويهم تغييرًا جذريًا في نهج التعامل، لما له من آثار متشابكة، تمثّل خطرًا متعدّد الأبعاد. يشعر الضحايا بالوحدة والخوف، ويعانون من الإحساس بالذنب والاضطرابات النفسية والمعرفية التي تترك جروحًا تطول، وربّما لا تلتئم، وتؤدّي إلى الاكتئاب ورفض المجتمع الدراسي.

 

وأخيرًا، ومع عدم اليقين بحجم الظاهرة، لعدم وجود أبحاث ميدانية دقيقة، أو لحساسية المشكلة، أو لمنع إجراء استقصاء حولها، وحجم الشكوى والوقائع، فإن حادثة واحدة تقع لا بد أن تثير الجهات المسؤولة عن التعليم وسلامة الأطفال، واتخاذ خطوات تترجم الغايات، واعتماد الوقاية بالأساس، ووضع قواعد صارمة في أذونات التراخيص للمدارس الخاصة، ورهن سريانها بالتزام معايير السلامة، ومنع أيّ شخص لديه قابلية للعنف أو الإيذاء من العمل في دور التعليم، وخصوصًا في السنّ الأصغر، الذي يكون فيه الأطفال غير قادرين كفايةً على التعبير والشكوى، وينتابهم الخوف والقلق. وهذا يستلزم حسن اختيار العاملين وإجراء الاختبارات النفسية، وتفعيل دور الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين في المتابعة، ليصبحوا جزءًا من منظومة الكشف المُبكّر والدعم والحماية، مع مراجعة أدوار الهيئات القومية المتخصّصة، كما المجلس القومي للأمومة والطفولة ولجان حماية الطفل، ومد أنشطتها للمدارس، ورفع القيود وتشجيع مؤسّسات المجتمع المدني ذات الصلة، لأن القضية تتجاوز المطالبة بالعقوبات لتصل إلى ضرورة وضع سياسات مُستدامة لا تتوقّف عند الوعود، وتتجاوز إعلان وزارة التعليم مع كل حادثة أنها أصدرت كتابًا دوريًا حول سلامة الطلاب، وكأنّها بذلك قامت بدورها.