في حلقة جديدة من مسلسل التنازلات الذي لا ينتهي، كشف خبراء عن الوجه القبيح لسياسات نظام قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي الاقتصادية، حيث لم يعد بيع الأصول أو الأراضي كافياً لسد نهم السلطة للعملة الصعبة، بل وصل الأمر إلى المتاجرة بصحة المصريين وأرواحهم.
الاتفاقيات الأخيرة مع شركة "إيني" الإيطالية وغيرها من الشركات الأجنبية، لم تعد مجرد شراكات اقتصادية لاستخراج الطاقة، بل تحولت وفقاً للتحليلات إلى "رخصة مفتوحة" لتلويث البيئة المصرية وتصدير الانبعاثات الكربونية والنفايات الصناعية التي ترفض أوروبا استضافتها على أراضيها، ليقبلها النظام المصري بصدر رحب مقابل استثمارات تبقيه على قيد الحياة، بينما يدفع المواطن البسيط الثمن من رئتيه وعمره.
وهو ما حذرت منه الدكتورة راجية الجرزاوي، الباحثة المتخصصة في الحقوق البيئية، التي أكدت في دراسات سابقة أن "مصر تتحول تدريجياً إلى منطقة استباحة بيئية للشركات المتعددة الجنسيات"، مشيرة إلى أن غياب الشفافية في دراسات تقييم الأثر البيئي لهذه المشروعات يجعل المواطن المصري هو الضحية الأولى لصفقات تُبرم في الغرف المغلقة دون أي اعتبار للكلفة الصحية طويلة الأمد.
استيراد التلوث.. مصر "مكب خلفي" للمصانع الأوروبية
يسلط الخبراء الضوء على استراتيجية خطيرة ينتهجها النظام الحالي، تتمثل في تخفيف الاشتراطات البيئية أو تجاهلها تماماً لجذب المستثمر الأجنبي. فبينما تفرض أوروبا قيوداً صارمة على الانبعاثات الكربونية والصناعات الملوثة (Carbon Leakage)، تجد شركات مثل "إيني" في مصر ملاذاً آمناً لممارسة أنشطتها الأكثر تلويثاً بتكلفة أقل.
وفي هذا السياق، يرى الدكتور ممدوح حمزة، الخبير الهندسي والاستشاري الدولي، أن الحكومة المصرية تقدم تسهيلات كارثية للأجانب لا يجرؤون على طلبها في بلدانهم، واصفاً ما يحدث بأنه "نوع من الاستعمار البيئي الجديد"، حيث تقوم الدول الكبرى بتصدير صناعاتها القذرة إلى دول الجنوب مقابل ديون أو استثمارات، لتبقى بيئتهم نظيفة بينما تتحول سماؤنا وأرضنا إلى مكب لنفاياتهم السامة تحت مسمى "التنمية".
النظام لا يكتفي بالصمت، بل يروج لهذه الكوارث البيئية باعتبارها "إنجازات" و"مراكز إقليمية للطاقة"، متجاهلاً أن هذه المشروعات غالباً ما تقام بالقرب من التجمعات السكنية في دمياط وبورسعيد وغيرها، ما يحول حياة السكان إلى جحيم يومي من الأدخنة والروائح الكيميائية، في وقت تمنع فيه الدول المتقدمة إقامة مثل هذه المنشآت إلا بشروط تعجيزية لحماية مواطنيها.
السرطان والأمراض الصدرية.. الفاتورة المخفية لـ"الإنجازات"
أخطر ما يطرحه ملف "إيني" وغيره هو التكلفة الصحية الباهظة التي يتجاهلها النظام عمداً. التقارير تشير إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض الصدرية والسرطانات في المناطق المتاخمة لمصانع البتروكيماويات ومحطات الإسالة التي تديرها الشركات الأجنبية.
وهو الأمر الذي أكده الدكتور عبد المسيح سمعان، أستاذ الدراسات البيئية، الذي أشار إلى أن التلوث الناتج عن أنشطة استخراج وتكرير النفط والغاز دون معايير صارمة يعد "قاتلاً صامتاً"، موضحاً أن الملوثات الدقيقة لا تسبب فقط أمراضاً تنفسية، بل تؤدي لتشوهات في الأجنة وتدمير للمنظومة المناعية للسكان المحيطين، وهي تكلفة لا تغطيها أي عوائد مالية من تلك المشروعات.
وبدلاً من أن تفرض الحكومة ضرائب بيئية أو تلزم هذه الشركات بإنشاء مستشفيات لعلاج المتضررين، نجدها توفر لها الحماية الأمنية وتقمع أي أصوات أهلية تعترض على التلوث. المعادلة لدى نظام السيسي واضحة ووحشية: "الدولار أهم من البشر". فالمستثمر الأجنبي "باشا" لا يجوز إزعاجه بشكاوى المواطنين من الاختناق أو تلوث المياه، حتى لو كان الثمن هو تدمير البيئة المحلية لعقود قادمة.
الهروب من الإفلاس على حساب السيادة البيئية
في النهاية، يكشف الخبراء أن هذا التفريط في المعايير الصحية والبيئية ليس نتاجاً للجهل، بل هو خيار سياسي واقتصادي لنظام مأزوم. فحكومة الانقلاب التي أغرقت البلاد في الديون، باتت مستعدة لتقديم أي تنازل لجذب العملة الصعبة، حتى لو كان ذلك يعني تحويل مصر إلى "مكب نفايات" صناعية للعالم الأول.
من جانبه، يعلق الخبير الاقتصادي هاني توفيق، على هذا النهج قائلاً: "إن النظام الحالي يعيش يوماً بيوم، ويبحث عن أي سيولة نقدية حتى لو كانت ملوثة"، معتبراً أن التضحية بالمعايير البيئية والصحية هي "أقصر طريق لدمار الاقتصاد القومي مستقبلاً"، لأن كلفة علاج المواطنين وإصلاح التدهور البيئي ستفوق بمراحل أي عوائد دولارية مؤقتة تدخل خزائن البنك المركزي اليوم.
صفقة "إيني" ليست سوى نموذج لنهج "بيع كل شيء"، حيث يتم التعامل مع المجال الجوي والبيئي المصري كأصل يمكن تأجيره لمن يدفع، دون اكتراث بحق الأجيال القادمة في هواء نظيف أو بيئة صحية. إنها سياسة "أنا ومن بعدي الطوفان"، حيث يراكم النظام الدولارات في خزائنه، بينما يراكم الشعب السموم في أجساده.

