في حلقة جديدة من مسلسل التفريط في مقدرات الوطن، تواصل حكومة الانقلاب تنفيذ مخطط ممنهج لتصفية ما تبقى من الاقتصاد المصري، عبر سيناريو خبيث يبدأ بإنفاق المليارات من أموال الشعب تحت لافتة "التطوير"، وينتهي بتسليم هذه الأصول "على طبق من ذهب" لمستثمرين أجانب تحت مسمى "الإدارة والتشغيل".
هذه السياسة التي يتبعها النظام العسكري ليست سوى غطاء لعملية بيع واسعة النطاق، تهدف في المقام الأول إلى توفير السيولة الدولارية اللازمة لسداد فوائد الديون المتراكمة، وتنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي، حتى لو كان الثمن هو تجريد الدولة من قلاعها الصناعية التاريخية وتحويلها إلى مجرد "سمسار" يمهد الطريق للمنتفعين.
"سبوبة" التطوير.. المليارات تتبخر والمستثمر يجني الثمار
ما يحدث في قطاع الغزل والنسيج هو المثال الأصارخ على هذا العبث الاقتصادي. فبعد أن أنفقت الدولة ما يقرب من 56 مليار جنيه لتحديث المصانع واستيراد ماكينات جديدة، تخرج علينا وزارة قطاع الأعمال العام لتعلن عن مفاوضات مع مجموعة "أروجلو" التركية وغيرها لإدارة وتشغيل هذه الصروح.
وفي هذا السياق، كشف الباحث العمالي والاقتصادي حسن البربري، عن الوجه القبيح لهذه السياسات، واصفًا ما يحدث بأنه "خصخصة مقنعة" وتدليس متعمد على الشعب. وأكد "البربري" في تصريحات صحفية أن الدولة تحولت من دور "المنتج والمشغل" إلى دور "المطور والمسهل" لصالح الغير، مشيرًا إلى أن مصطلحات مثل "الشراكة" و"الإدارة المشتركة" ليست سوى عناوين براقة لتمرير صفقات البيع دون إثارة الرأي العام.
وأوضح أن خطط التطوير المزعومة التي كلفت المليارات لم تنعكس إيجابًا على العمال، بل انتهت بتسريح وتشريد الآلاف منهم، مستشهدًا بشركة غزل المحلة التي فقدت نصف قوتها العاملة، وشركات الزيوت التي دمجت لتقليص 30% من العمالة، وهو ما يكشف أن تقليل الخسائر في الدفاتر الحكومية تم عبر قطع أرزاق العمال لا عبر تحسين الإنتاج.
رضوخ كامل لإملاءات الصندوق
لم يعد خافيًا أن التحركات الحكومية الأخيرة تأتي كاستجابة صاغرة لشروط المؤسسات المالية الدولية، حيث أصبح بيع الأصول هو الحل الوحيد المتاح أمام نظام أفلس سياسيًا واقتصاديًا لتأجيل لحظة الانهيار الوشيكة.
ويرى الدكتور كريم العمدة، أستاذ الاقتصاد السياسي، أن ما يجري هو تطبيق حرفي لروشتة صندوق النقد الدولي، مؤكدًا أن زيادة مشاركة القطاع الخاص كانت ولا تزال الشرط الأساسي لصرف شرائح القروض.
وأوضح "العمدة" أن النظام الحالي يسعى لرفع يده تمامًا عن النشاط الاقتصادي المباشر، متذرعًا بفشل الإدارة الحكومية والبيروقراطية، بينما الحقيقة هي أنه يتنازل عن الأصول الإنتاجية والخدمية (مثل الفنادق التاريخية ومصانع الحديد والصلب) لمستثمرين استراتيجيين، ليكتفي بدور "الشريك الصامت" الذي ينتظر الفتات من الأرباح، بينما تذهب الحصة الأكبر للمستثمر الذي استلم المشروع جاهزًا ومطورًا بأموال المصريين.
وثيقة ملكية الدولة.. خريطة التخارج
تأتي هذه التحركات تتويجًا لما سمي بـ "وثيقة ملكية الدولة"، التي اعتبرها مراقبون إعلانًا رسميًا عن انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي والاقتصادي لصالح رؤوس الأموال.
وفي هذا الصدد، حذر محمد رمضان، الباحث الاقتصادي بـ"المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، من خطورة التسرع في هذا النهج، مؤكدًا أن مصطلح "إشراك القطاع الخاص" الذي يملأ الفضاء الإعلامي الرسمي هو الترجمة العملية لمطلب "التخارج" الذي يصر عليه صندوق النقد.
وأشار "رمضان" إلى أن الحكومة كان بإمكانها اتباع حلول بديلة أكثر وطنية واستدامة، مثل الاستعانة بخبرات القطاع الخاص وكفاءاته لإدارة الأصول تحت المظلة الوطنية، بدلاً من تسليم مفاتيح الإدارة والتشغيل بالكامل للأجانب. واعتبر أن هذا التوجه يعكس استسهالاً حكوميًا لبيع الأصول كأقصر طريق لسداد الديون، دون النظر للعواقب الوخيمة على الأمن القومي الاقتصادي ومستقبل الصناعة الوطنية على المدى البعيد.
إن المشهد الحالي يؤكد أن حكومة الانقلاب تتعامل مع مصر وكأنها "تركة" يجب تصفيتها، حيث يتم تجهيز الأصول وتلميعها بالديون، ثم تسليمها للمشتري، ليبقى الشعب المصري محاصراً بين مطرقة الديون وسندان البطالة وغلاء الأسعار، بينما يواصل العسكر سياسة "البيع لمن يدفع" للبقاء في السلطة ولو على أنقاض الوطن.

