الاجتماع الذي عقده مصطفى مدبولي مع مسؤولي «إيني» ومجموعة «سان دوناتو» انتهى إلى اتفاق على أن تتولى مؤسسة «إيني فاونديشن» إدارة وتشغيل مستشفى هليوبوليس الجديد ومستشفى العاصمة الجديدة 2، في إطار ما وصفته الحكومة بـ«التنمية المجتمعية» و«المسؤولية الاجتماعية للشركات». وزير الصحة خالد عبد الغفار أكد أن المستشفيين جزء من خطة «تعزيز البنية التحتية الطبية» بالشراكة مع القطاع الخاص، مع الإشارة إلى أن مستشفى العاصمة الجديدة 2 يضم 377 سريرًا وتجهيزات لقسطرة وجراحات القلب، بينما يضم هليوبوليس الجديد 443 سريرًا ووحدات أورام وحروق وسكتة دماغية ومدرسة تمريض تخدم أكثر من 4 ملايين مواطن. لكن خلف هذا الخطاب اللامع، تبرز أسئلة جوهرية حول من يدفع الفاتورة، وكيف ستتحدد أسعار الخدمات الصحية تحت إدارة شركة طاقة أجنبية.
ما شكل الشراكة.. ومن يدير فعليًا؟
وفق البيانات الرسمية، جوهر الاتفاق هو أن تتولى Eni Foundation إدارة وتشغيل المستشفيين بالتعاون مع مجموعة مستشفيات «سان دوناتو» الإيطالية، بوصفها الشريك الطبي ذو «المعايير العالمية». الحكومة تسوّق الاتفاق كنموذج لـ«المسؤولية المجتمعية»، وتؤكد أن الأمر ليس بيعًا للأصول بل تشغيلًا بالشراكة، وأن ملكية المستشفيات تبقى للدولة. مع ذلك، لم تُعلن حتى الآن تفاصيل العقود: مدة التعاقد، نسب العائد للطرفين، حدود سلطة الجانب الإيطالي في التوظيف والتسعير، ولا آليات الرقابة والمحاسبة. غياب هذه الشفافية يفتح الباب لتخوف مشروع من أن تتحول الإدارة الأجنبية إلى ذراع فعلية لخصخصة جزئية، تُدار فيها المستشفيات بعقلية الربح، بينما تتحمل الدولة – والمواطن الفقير – المخاطر والتبعات.
ماذا عن أسعار الخدمات الصحية؟
المتحدث باسم مجلس الوزراء محمد الحمصاني سارع إلى التأكيد في تصريحات إعلامية أن الشراكة مع «إيني» و«سان دوناتو» «لن تمس أسعار الخدمات الطبية المقدمة لمحدودي الدخل»، وأن الهدف هو تحسين الجودة وليس رفع التكلفة. لكنه لم يقدم أي جداول أو لوائح تثبت تجميد الأسعار، ولا أوضح ما المقصود بـ«محدودي الدخل» وكيف سيتم تعريفهم عمليًا داخل المستشفى. كذلك لم يتطرق أحد رسميًا لأسعار الخدمات للفئات متوسطة وعليا الدخل، أو لآليات الفوترة في الخدمات المتقدمة مثل قسطرة القلب وعلاج الأورام، وهي بطبيعتها مرتفعة التكاليف. التجارب السابقة للشراكات مع القطاع الخاص في الصحة – داخل مصر وخارجها – تشير غالبًا إلى نموذج مزدوج: شريحة محدودة من المرضى تستفيد بسعر مدعوم أو مجاني، بينما يُفتح الباب على مصراعيه أمام تسعير شبه استثماري لباقي المرضى، بما يحول المستشفى العام إلى كيان «مختلط» تُقدم فيه الخدمة العامة على هامش نشاط ربحي متوسع.
حكومة تتهرب من الاستثمار وتُسلم مفاصل الصحة للأجانب
المنطق الذي يقدَّم به هذا الاتفاق هو أن «الدولة لا تستطيع وحدها إدارة وتشغيل كل المستشفيات»، وأن الاستعانة بخبرة أجنبية ضرورية لرفع الكفاءة وتحديث الإدارة. لكن الحقيقة أن الحكومة اختارت لسنوات إنفاق مئات المليارات على مشروعات غير ذات أولوية اجتماعية – من عواصم جديدة وقصور وطرق ضخمة – بينما تُركت المستشفيات العامة تعاني نقصًا في الكوادر والتجهيزات والصيانة. الآن، بدل إصلاح هذا الخلل عبر ضخ استثمارات مباشرة وتحرير إدارة المستشفيات من الفساد والبيروقراطية، يجري تسليم مستشفيات استراتيجية في القاهرة والعاصمة الإدارية لشركة طاقة أجنبية تحت عنوان «المسؤولية المجتمعية». هذا المسار يعمق اعتماد المنظومة الصحية على شركاء خارجيين، ويفتح الباب لهيمنة شركات عابرة للحدود على مفاصل حساسة في الرعاية الصحية، من العيادات الخارجية إلى غرف العمليات والعناية المركزة.
مخاطر خصخصة مقنّعة على حساب المريض الفقير
الاتفاق مع «إيني» يأتي في سياق أوسع من دفع الدولة نحو مزيد من «مشاركة القطاع الخاص» في الصحة، استجابة لشروط صندوق النقد الدولي وتوجهات الخصخصة التي تطال كل شيء من الكهرباء إلى التعليم. الخطر هنا مزدوج:
أولًا، أن تتحول المستشفيات العامة الكبرى إلى واجهة استثمارية تُفضَّل فيها الحالات القادرة على الدفع نقدًا أو عبر شركات تأمين تجاري، بينما يُزاح المريض الفقير إلى قوائم انتظار طويلة أو يُدفع إلى مستشفيات متهالكة خارج منظومة «الشراكة».
ثانيًا، أن يصبح قرار التوسع في خدمات معينة أو إغلاق أخرى مرتبطًا بحسابات الربحية لا بحاجات المجتمع، بحيث يحصل سكان مناطق النزهة والعاصمة الجديدة على خدمات عالية الجودة لمن يدفع، بينما تبقى المحافظات الأبعد بلا تطوير مماثل.
الحكومة تتحدث عن «لا مساس بأسعار محدودي الدخل»، لكنها لم تلتزم بتحسين حقيقي في ميزانية الصحة العامة، ولا برفع أجور الأطباء والممرضين، ولا بتوسيع مظلة التأمين الصحي الشامل بشكل فعّال، وهو ما يجعل خطابها أقرب لمحاولة احتواء الغضب من خطوة تُرى على نطاق واسع كخصخصة مقنّعة.
شراكة على حساب حق العلاج
توسيع دور «إيني» من الغاز إلى إدارة المستشفيات قد يبدو للبعض «تعاونًا حضاريًا» و«نقل خبرات»، لكنه في جوهره يعكس انسحاب الدولة من واجبها الأول: ضمان حق العلاج الجيد والمجاني أو منخفض التكلفة لجميع المواطنين. اتفاق إدارة وتشغيل مستشفى هليوبوليس الجديد ومستشفى العاصمة الجديدة 2 عبر مؤسسة «إيني فاونديشن» بدون كشف واضح لسياسات التسعير وحقوق المرضى، ومع الاكتفاء بعبارات مطاطة حول «عدم المساس بمحدودي الدخل»، يؤكد أن الحكومة تتعامل مع صحة الناس كملف استثماري لا كحق دستوري. ما لم تُنشر العقود كاملة، وتُحدد نسب الخدمات المجانية والمدعومة، وتُربط الإدارة الجديدة برقابة حقيقية من المجتمع والأطباء والمرضى، فإن هذه الشراكات لن تكون إلا خطوة إضافية في طريق تحويل المستشفيات العامة إلى مشاريع ربحية، يدفع ثمنها الفقير أولًا، بينما تحصد الحكومة وشركات الطاقة وشركاؤها فوائد سياسية ومالية على حساب جسد المواطن المصري وكرامته
تفتيش باسم «منع التهريب»
بحسب ما نشره «العربي الجديد» نقلًا عن مصادر مصرية وفلسطينية وسائقي شاحنات، تنتشر مجموعات مسلحة تابعة لإبراهيم العرجاني على طول الطريق الدولي بين الشيخ زويد ورفح، وتوقف شاحنات المساعدات والبضائع المتجهة إلى غزة للتفتيش «بحثًا عن مواد يمنع الاحتلال إدخالها». السائقون يؤكدون أن التفتيش روتيني وشامل، يشمل إنزال كراتين وعينات من الحمولة وتفتيشًا يدويًا مكثفًا لكل نوع من الشحنات، من مواد غذائية إلى مساعدات طبية وتجارية، بحجة منع تهريب الهواتف والسجائر وبعض الأدوية والمستلزمات الطبية المصنفة «ممنوعة» إسرائيليًا. بهذه الطريقة يتحول الممر المصري إلى امتداد عملي لقوائم المنع الإسرائيلية، تُنفَّذ بيد مجموعات خاصة لا بقرار قضائي أو إنساني.
تفتيش يدمّر المساعدات ويخدم «المخازن الخاصة»
الشهادات تشير إلى أن عمليات التفتيش لا تقتصر على الفحص البصري، بل تصل إلى تمزيق أكياس المواد الغذائية وإتلاف جزء من الحمولة بحثًا عن أي مواد مصنفة «مهربة». عند العثور على مواد ممنوعة وفق المعايير الإسرائيلية، يقوم المسلحون بتصوير الشحنة ثم مصادرتها ونقلها إلى مخازن شركة «أبناء سيناء» المملوكة للعرجاني، بدلًا من ضبط رسمي تُحدّد فيه جهة قضائية مصير المضبوطات. هذا السلوك يطرح أسئلة قانونية وأخلاقية كبرى: بأي حق تُفتَّش قوافل الإغاثة بهذا الشكل خارج إطار مؤسسات الدولة؟ ومن يضمن ألا تتحول المصادرات إلى مصدر ربح إضافي في سوق سوداء تستفيد من احتياجات سكان القطاع المحاصر؟ الأكيد أن النتيجة العملية هي تدمير جزء من المساعدات وتأخير وصولها وزيادة تكلِفتها النهائية على الفلسطينيين.
ضمانات بمليون دولار ورسوم تنسيق 100 ألف لكل شاحنة
الأخطر من التفتيش المسلح هو ما تكشفه شهادات التجار الفلسطينيين عن جبايات مالية ممنهجة. مصادر تحدثت لـ«العربي الجديد» تؤكد أن شركة «أبناء سيناء» تجبر التجار على إيداع ضمانات تصل إلى مليون دولار، تحت عنوان الالتزام بعدم إدخال مواد ممنوعة إسرائيليًا. تاجر فلسطيني أوضح أن تنسيق إدخال كل شاحنة يكلف نحو 100 ألف دولار تُدفع للشركة مقابل «تسهيل المرور» عبر الأراضي المصرية وصولًا إلى معبر كرم أبو سالم. تاجر آخر مقيم في القاهرة ذكر أن الشركة تفرض غرامة قدرها 70 ألف دولار عن كل شاحنة يُضبط داخلها مواد ممنوعة، تُخصم مباشرة من مبلغ التأمين المودَع لديها. هذه الأرقام تعني عمليًا أن حركة التجارة والإغاثة إلى غزة خُضعت لـ«تعرفة عثمانية» خاصة يحددها فاعل واحد يحتكر الممر ويتصرف كسلطة فوق القانون.
منظومة ربحية متكاملة على بوابة غزة
التحقيقات الدولية والإقليمية السابقة ترسم صورة أكثر اتساعًا. تحقيق لموقع «ميدل إيست آي» البريطاني أشار إلى أن شركة العرجاني فرضت رسومًا تصل إلى 20 ألف دولار على شاحنات المساعدات المتجهة إلى القطاع، فوق ما يتحمله التجار من تكاليف الشحن والشراء. تحقيق سابق للموقع نفسه كشف أن الشركة حققت نحو 88 مليون دولار في بضعة أسابيع فقط عبر فرض رسوم على الفلسطينيين الراغبين في الخروج من غزة إلى مصر، بلغت 5000 دولار للشخص البالغ و2500 دولار لمن هم دون 16 عامًا. معطيات «العربي الجديد» عن رسوم 100 ألف دولار للشاحنة وضمانات بمليون دولار وغرامات 70 ألفًا عند «المخالفة» تكمل ملامح اقتصاد مغلق: الدخول والخروج والمرور لا يتم إلا عبر بوابة واحدة تتحول فيها حياة الناس وآلام المحاصرين إلى أرقام في دفتر أرباح.
دور الدولة الغائب.. وتواطؤ يحوّل الحصار إلى «مشروع»
كل ما سبق يجري، وفق الشهادات، في نطاق جغرافي شديد الحساسية أمنياً وسياسياً، ما يستحيل حدوثه دون علم الأجهزة الرسمية أو غضّ طرفها. وجود مجموعات مسلحة خاصة توقف الشاحنات على طريق دولي وتفتش وتصادر وتنقل إلى مخازن شركة خاصة، ثم تحصّل ضمانات ورسومًا وغرامات بمئات الآلاف والملايين، لا يمكن أن يكون فعلًا فرديًا أو عشوائيًا. صمت الدولة المصرية، وعدم خروج أي جهة رسمية لنفي تفصيلي مدعوم بالأرقام والوثائق أو لإعلان تحقيق شفاف، يُفهَم على أنه قبول ضمني بمنظومة تحول الحصار إلى «مشروع استثماري» مربح لدوائر ضيقة مرتبطة بالسلطة. النتيجة أن صورة مصر كوسيط إنساني تتآكل، ليحل محلها وجه «الوكيل المحلي» الذي يفرض على الفلسطينيين كلفة إضافية فوق كلفة الحصار والعدوان.
ممر إنساني مختطَف بين الاحتلال ورأس المال
ما تكشفه التقارير عن دور إبراهيم العرجاني وشركة «أبناء سيناء» في الممر المصري إلى غزة يفضح كيف يمكن أن تتحول قضية أخلاقية وإنسانية كبرى إلى فرصة لطبقة من المستفيدين، تتربح من دماء المحاصرين بكل ما تعنيه الكلمة. تفتيش مسلح يحرس قوائم المنع الإسرائيلية، جباية بالدولار على كل شاحنة وكل خروج وكل مخالفة، ومصادرات تُنقل إلى مخازن خاصة بدل أن تُحتجز وفق قانون واضح، كل ذلك يجري بينما تتحدث الحكومات عن «دعم غزة» و«تسهيل المساعدات». ما لم يُفتح تحقيق مستقل وجاد، وتُنزع يد الشركات الخاصة والمجموعات المسلحة عن ممرات المساعدات، وتُدار المعابر وفق قواعد إنسانية وقانونية شفافة، سيظل الطريق إلى غزة طريقًا مفروشًا بالدولارات التي تُستخرج قسرًا من جيوب التجار والمرضى والنازحين، قبل أن تصل فتات المساعدات إلى من ينتظرونها تحت القصف والجوع.

