في خطوة تكشف عقلية أمنية تهيمن على الإدارة المدنية للدولة، خرج رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ملوحًا بسيف "تغليظ العقوبات" لمواجهة ما أسماه بـ "مروجي الأكاذيب"، متجاهلاً أن البيئة الخصبة لهذه الشائعات هي "التعتيم الرسمي" الذي تمارسه حكومته بامتياز.
فبدلاً من أن يبادر بفتح خزائن المعلومات المغلقة أمام الرأي العام، اختار مدبولي الطريق الأسهل والأكثر قمعًا: التهديد بمزيد من القيود في دولة تعاني أصلاً من تخمة في التشريعات العقابية، وكأن الحل السحري لأزمات مصر يكمن في بناء مزيد من الأسوار لا الجسور. هذا النهج أثار عاصفة من الرفض في الأوساط الصحفية والحقوقية، التي أجمعت على أن الحكومة تحاول معالجة العرض (الشائعات) بينما تتعمد تجاهل المرض (غياب الشفافية)، محولة "الأمن القومي" إلى شماعة لإخفاء الفشل الإداري.
خالد البلشي: لا تلوموا الظلام وأنتم من كسر المصابيح
بشجاعة نقابية، تصدى خالد البلشي، نقيب الصحفيين، لمنطق الحكومة "المقلوب"، مؤكدًا أن ما تفعله السلطة هو السير في "طريق عكسي" ومخالف للدستور. وشدد البلشي في تصريحات نارية على أن الأولوية القصوى يجب أن تكون للإفراج عن قانون "حرية تداول المعلومات" الحبيس في أدراج السلطة، وليس البحث عن أدوات قمع جديدة. ووضع النقيب يده على الجرح النازف قائلاً إن مواجهة الشائعات تبدأ بإتاحة الحقيقة في وقتها، لا بتهديد الناس بالسجن، معتبرًا أن تغليظ الغرامات والعقوبات في غياب المعلومات هو وصفة لتكميم الأفواه وليس لحماية المجتمع.
يحيى قلاش: دستور "معطل" وتشريعات لحماية الفساد
وفي نقد لاذع للأداء التشريعي، وصف النقيب الأسبق يحيى قلاش الدستور بأنه أصبح "معطلاً" فيما يخص حق المعرفة. وأشار بوضوح إلى أن الرئيس يتحدث عن "الرأي والرأي الآخر"، بينما رئيس وزرائه يهرول نحو "ترسانة قوانين مقيدة" لا تحمي الاقتصاد بل توفر بيئة حاضنة للفساد الذي ينمو في الظلام. واستنكر قلاش أن يدخل البرلمان دورته الثالثة متجاهلاً الاستحقاق الدستوري لقانون المعلومات، بينما يتفرغ لسن قوانين تزيد من عتمة المشهد، مؤكدًا أن العالم تجاوز عقوبات النشر، بينما لا تزال مصر محكومة بعقلية القرون الوسطى.
نجاد البرعي ووائل عباس: العقوبات "سوط" لإسكات الخصوم
لم تتوقف موجة الانتقادات عند الصحفيين، بل امتدت للحقوقيين والنشطاء. فقد تساءل المحامي نجاد البرعي، عضو الحوار الوطني، عن جدوى تغليظ عقوبات هي في الأصل "قاسية ووحشية"، مشيرًا إلى أن تهمة "نشر أخبار كاذبة" باتت سيفًا مسلطًا على رقاب الجميع. وأكد أن مصر لا تحتاج لمزيد من السجون، بل تحتاج لمزيد من الحقائق.
وفي السياق ذاته، حذر الناشط وائل عباس من أن مصطلح "الشائعات" فضفاض لدرجة أنه يُستخدم كغطاء لإسكات أي صوت ناقد أو مختلف، معتبرًا أن قوانين الشائعات هي في حقيقتها تهديد مباشر لحرية التعبير، وأن الدول لا تتقدم بالتطبيل بل بالنقد وكشف المستور.
خلاصة: حكومة تخاف الحقيقة أكثر من الكذب
يُظهر هذا الإجماع من النخبة المهنية والسياسية أن معركة "مدبولي" ضد الشائعات هي في جوهرها معركة ضد "المعلومة". فالحكومة التي تمتلك الحقائق لا تخشى الأكاذيب، بل تواجهها بالنور. أما السلطة التي تفزع من كل همسة نقد، وتهرع لتشديد العقوبات عند كل أزمة، فهي سلطة تدرك في قرارة نفسها أن أداءها لا يحتمل ضوء الشمس، وأن بقاءها مرهون باستمرار حالة "العمى المعلوماتي" التي تفرضها على المواطنين. إن الحل ليس في تغليظ العصا، بل في إنارة الطريق، وهو ما يبدو أن الحكومة الحالية ترفضه بإصرار مريب.

