في بلد يُسحق فيه الفقراء تحت أقدام الغلاء والقمع، كانت حديقتا الحيوان والأورمان من آخر المساحات التي يشعر فيها المواطن البسيط أنه ما زال يملك شيئاً في هذا الوطن: شجرة، مقعد خشبي، نيل من بعيد، وضحكة أطفال لا تحتاج أكثر من جنيه عند بوابة الحديقة. اليوم، تحت لافتة "التطوير" التي ترفعها حكومة السيسي، يتحول هذا الحق البسيط إلى رفاهية محجوزة لأصحاب الجيوب الممتلئة، بينما تُغلق الأبواب في وجه من لا يملك ثمن التذكرة الجديدة التي ستُسعَّر وفقاً لحسابات المستثمرين لا احتياجات المواطنين. ما يجري في حديقتي الحيوان والأورمان ليس مشروع تجميل عمراني، بل حلقة جديدة في مسلسل نهب الفضاء العام لصالح تحالف أمني–عسكري–استثماري، يطرد الفقراء من آخر ما تبقى لهم من متنفس.

 

من حديقة شعبية إلى محمية استثمارية لعصابة الحكم

 

سنوات طويلة ظلّت الحديقتان عنواناً للترفيه الشعبي الرخيص، تزورهما الأسر البسيطة والطبقة الوسطى المتآكلة، في الأعياد والعطلات، كجزء من ذاكرة جماعية متوارثة. لكن مع مشروع "تطوير" جديد، تحوّل المنطق تماماً: لم تعد الحديقة مكاناً عاماً مملوكاً للشعب، بل "أصل استثماري" تخضع دراسته لحسابات العائد والربحية والسياحة والرعاة التجاريين، تحت سيطرة مؤسسات مرتبطة مباشرة بالأجهزة السيادية.

 

بمعنى أوضح، الدولة التي عجزت عن ضمان خبز كريم وتعليم محترم وعلاج آدمي، لم تتحمل حتى أن يبقى للفقراء متنفس زهيد يدخلونه بجنيه، فقررت تحويله إلى مشروع ربحي مغلق، يدار بعقلية "مول سياحي" لا بعقلية خدمة عامة.

 

اجتماع مدبولي: أوامر من فوق وتنفيذ لصالح الجنرالات

 

اجتماع رئيس حكومة السيسي مصطفى مدبولي مع وزراء ومسؤولين وعسكريين لمتابعة مشروع التطوير لم يكن اجتماعاً إدارياً عادياً، بل اجتماع تنفيذ أوامر. الخطاب الرسمي تحدّث عن "إدارة محترفة" من خلال القطاع الخاص، وهي العبارة التي باتت في قاموس هذه السلطة مرادفاً لتمكين رجال الأعمال المحسوبين على الأجهزة الأمنية والعسكرية من مفاصل الاقتصاد، وإقصاء أي دور حقيقي للمجتمع أو الإدارات المدنية المستقلة.

 

حديث مدبولي عن "حماية الاستثمارات" يكشف الجوهر: الأولوية ليست للمواطن الذي يبحث عن مكان رخيص ليلعب أطفاله فيه، بل لرأس المال الذي سيضخ أمواله مقابل ضمانات أمنية وسيادية طويلة الأمد. هنا تتحول الحكومة من إدارة دولة إلى إدارة مصالح شبكة ضيقة تحكم وتملك وتستثمر في الوقت نفسه.

 

تحالف استثماري أمني: استيلاء مقنن لا "شراكة" اقتصادية

 

التحالف الاستثماري الذي يقود مشروع التطوير ليس تجمعاً لخبراء بيئة أو تخطيط عمراني، بل تحالف تقوده جهات عسكرية كجهاز الإنتاج الحربي، وتشارك فيه شركات أجنبية وإقليمية، إلى جانب شركات مصرية مرتبطة برجال أعمال معروفين بقربهم من الأجهزة الأمنية. ما يبدو على الورق "شراكة" هو في الحقيقة استيلاء مقنن ومغلف بالقانون على مورد عام وتاريخي.

 

بدلاً من أن تُدار الحديقة بصفتها مرفقاً عاماً خاضعاً لرقابة شعبية ومحاسبة سياسية، تُمنح عملياً لتحالف مغلق يضع شروطه، ويرسم الأسعار، ويحدد شكل المكان وروّاده وفق أولويات الربح والأمن، لا وفق احتياجات المجتمع أو الحفاظ على هوية المكان.

 

حق الانتفاع أم حق السطو؟ 20 عاماً في قبضة المخابرات

 

منح حق الانتفاع بإدارة الحديقتين لمدة 20 عاماً لشركة تابعة للمخابرات العامة يكشف بوضوح من يحكم فعلياً المشهد الاقتصادي. ليست هذه مجرد صفقة تجارية، بل قرار سياسي يكرّس سيطرة الأجهزة السيادية على مقدّرات البلاد، حتى في ملف يبدو "ترفيهياً" في ظاهره.

 

حين تُعطى إدارة رمز حضاري وتاريخي مثل حديقة الحيوان والأورمان لذراع اقتصادية لجهاز أمني، فإن الرسالة واضحة: لا مجال لفضاء عام مستقل، ولا لمرفق شعبي خارج قبضة الأجهزة. "حق الانتفاع" هنا يتحول إلى "حق سطو" طويل الأجل على حق الناس في المكان، وعلى عوائد استثمار أرض يفترض أنها ملك عام لا ملكاً لمؤسسة أمنية مهما كان اسمها.

 

إغلاق متعمد وتمطيط في المواعيد: المواطن آخر من يُحسب حسابه

 

منذ يوليو 2023 أُغلقت الحديقتان بدعوى التطوير، مع وعود رسمية متكررة بالافتتاح في يناير 2025، ثم توالت التأجيلات بلا شفافية ولا محاسبة. هذا الإغلاق الطويل ليس فقط دليلاً على سوء الإدارة، بل يعكس احتقاراً واضحاً لحق المواطنين في أن تُدار المرافق العامة بجدول زمني واضح ومسؤولية معلنة أمام الناس.

 

طوال هذه الفترة، حُرم ملايين من الأسر من مساحة اعتادوا زيارتها، دون أن تتكلف الحكومة عناء تفسير دقيق لما يجري، أو إشراك المجتمع في مناقشة مستقبل الحديقتين. المواطن هنا ليس شريكاً ولا صاحب حق، بل متلقٍ صامت

 

محو الهوية الشعبية والتاريخية لصالح "مول" سياحي مغلق

 

حديقة الحيوان ليست مجرد أقفاص حيوانات، بل ثالث أقدم حديقة من نوعها في العالم، وقطعة من ذاكرة القاهرة والشرق الأوسط. وحديقة الأورمان واحدة من أبرز الحدائق النباتية في المنطقة، ارتبطت بتاريخ مصر وحداثتها. لكن المنطق الاستثماري الحالي يتجه إلى إعادة تشكيل الهوية بالكامل: مطاعم فاخرة، كافيهات، فعاليات تجارية، حفلات مدفوعة، ومساحات مغلقة لمن يستطيع الدفع.

 

تُمحى الهوية الشعبية لصالح نموذج "الوجه السياحي العصري" الذي يخدم صور الدعاية الرسمية، بينما يتم اختزال التاريخ في لوحة تعريفية عند المدخل. المواطن البسيط الذي صنع ذاكرة المكان بزياراته وصوره وضحكاته يُقصى عملياً من المشهد، ويُستبدل بسائح عابر أو مستهلك ميسور.