تحذير السفير السابق معصوم مرزوق من أن «استقرار الطبقة المتوسطة يعني استقرار الدولة، وتآكلها يُنتج اضطراباً سياسياً» لا يأتي من فراغ، بل من قراءة عميقة لطبيعة المجتمعات الحديثة ودور هذه الطبقة في حمل الدولة على أكتافها. الطبقة التي تُعلِّم، وتُعالِج، وتُدير المؤسسات، وتُنتج المعرفة والخدمات، تُسحَق اليوم بسياسات اقتصادية ومالية ضاغطة، بينما يواصل نظام الانقلاب الحديث عن «الإصلاح» و«التنمية» كأن شيئاً لا يحدث. في بلد تُستنزَف فيه الدخول الثابتة بالتضخم والضرائب وغلاء المعيشة، يصبح ضرب الطبقة المتوسطة ليس خطأ عارضاً، بل خياراً سياسياً يفتح الباب لعدم استقرار طويل الأمد تؤكده تقارير اقتصادية محلية ودولية حديثة عن أوضاع المصريين.

 

 

«البطن الرخوة»: الطبقة التي تتلقى الضربات من فوق ومن تحت

 

يصف معصوم مرزوق الطبقة المتوسطة بأنها «البطن الرخوة» للمجتمع؛ ليست محصّنة بثروة كبرى مثل القمة، ولا محمية بـ«درع الفقر» في القاع، بل في المنتصف تماماً؛ أي في نقطة الاصطدام بين قرارات السلطة وواقع الناس. هذه الطبقة تعتمد في الأغلب على دخل ثابت: موظفون حكوميون، معلمون، أطباء، مهندسون، صحافيون، مهنيون، وأصحاب مهارات تقنية، ما يجعلها شديدة الحساسية لأي تآكل في القوة الشرائية أو موجات تضخم متتابعة. حين يرفع النظام الأسعار، أو يخفض دعم الخدمات، أو يطلق ضرائب ورسومًا جديدة، فإن أول من ينزف فعلياً هم أصحاب الرواتب الثابتة الذين لا يملكون رفاهية رفع أسعار منتجاتهم أو الهرب إلى ملاذات ضريبية. في المقابل، يملك أصحاب الثروات الكبيرة أدوات الحماية: من حسابات في الخارج، إلى شراء نفوذ سياسي وقانوني يحمي مصالحهم، بينما الطبقات الأشد فقراً لا تشعر بالصدمة بنفس الدرجة لأنها في الأساس تعيش على هامش البقاء.

 

عالم يتآكل وسطه.. لكن مصر تحت حكم السيسي أسوأ حالة

 

صحيح أن «تجاويف الطبقة المتوسطة» ظاهرة عالمية منذ الثمانينيات، بفعل التكنولوجيا التي ألغت وظائف متوسطة المهارة، والعولمة التي ضربت الصناعات المحلية، وتضخم تكاليف التعليم والصحة، واتساع فجوة الدخل وضعف النقابات والخصخصة وتراجع الحراك الاجتماعي. غير أن ما يحدث في مصر يضيف إلى هذه العوامل وصفة أشد قسوة: اقتصاد ريعي يميل للمضاربة لا الإنتاج، توسّع جنوني في الضرائب غير المباشرة والرسوم، اقتراض خارجي ثقيل يُسدد من جيوب الداخل، وتضييق على أي صوت نقابي أو مدني يمكن أن يدافع عن مصالح العاملين. بينما تحاول دول أخرى التخفيف من آثار التحولات العالمية بحماية دخول الطبقة المتوسطة وخدماتها الأساسية، يدفع نظام الانقلاب التكلفة كاملة إلى هذه الطبقة، عبر موجات تعويم ورفع أسعار وخفض إنفاق اجتماعي، مع استمرار امتيازات واسعة لشرائح مرتبطة بالسلطة وشبكات الاحتكار. هكذا تتضاعف سرعة الانحدار الطبقي: من أسرة كانت «مستورة» إلى أسرة مهددة بالعجز عن تعليم الأبناء أو العلاج أو السكن اللائق.

 

من تآكل الجيب إلى انهيار مؤسسات الدولة

 

خطورة ما يشرحه معصوم مرزوق لا تقف عند حدود الجيب الفارغ، بل تمتد إلى بنية الدولة ذاتها؛ فالطبقة المتوسطة هي من يدير المدارس والجامعات، ويشغل المستشفيات، ويحرّك الجهاز الإداري، ويُنتج الكوادر المهنية التي تحتاجها أي دولة تريد الاستمرار. حين تضعف هذه الطبقة وتتحول إلى هشاشة، يبدأ الانهيار «هادئاً» داخل المؤسسات: معلم مرهق يعمل عملين أو ثلاثة فلا يقدّم تعليمًا حقيقيًا، طبيب يهاجر لأن دخله لم يعد يكفي، موظف يُجبَر على الرشوة الجانبية ليستمر، شاب متعلم يترك البلد بحثاً عن أي فرصة في الخارج. تآكل الطبقة المتوسطة يعني خروج أفضل عناصر المجتمع من الخدمة الفعلية: بالاستقالة الصامتة داخل الوطن، أو بالهجرة، أو بانزلاقهم إلى الهامش. النتيجة دولة تُدار بكوادر أقل كفاءة وأكثر فساداً، ما يزيد شعور الناس بالظلم، ويدخل المجتمع في حلقة مفرغة من الغضب وفقدان الثقة.

 

سياسات الانقلاب: تحطيم «رمانة الميزان» بدل حمايتها

 

بدل أن يتعامل نظام السيسي مع الطبقة المتوسطة باعتبارها «رمانة الميزان» التي يجب حمايتها كأولوية أمن قومي، جاءت السياسات معاكسة تماماً للحد الأدنى مما ينصح به أي خبير موضوعي. لا ضبط حقيقي للتضخم عبر كسر الاحتكار وتحسين التنافسية، بل تركّز للثروة في أيدٍ قليلة ومشروعات ضخمة لا تنعكس على حياة الناس اليومية. لا إصلاح ضريبي عادل يخفف العبء عن الدخل المتوسط ويفرض ضرائب تصاعدية حقيقية على الثروة، بل توسيع مستمر لقاعدة الجباية على الاستهلاك بينما تبقى مناطق كاملة من الاقتصاد محمية بالصفة السيادية أو بشبكات المصالح. لا سكن ميسر حقيقي للطبقة المتوسطة، بل مشروعات عقارية فاخرة مُسعّرة بالدولار أو بما يقاربه. لا تعليم حكومي مجاني جيد ولا تأمين صحي عام محترم، بل انزلاق الطبقة المتوسطة إلى تعليم خاص مكلف وعيادات خاصة تنهش ما تبقّى من دخلها. هكذا تُضرب الأهداف الأربعة التي يفترض أن تحمي هذه الطبقة: القوة الشرائية، جودة الخدمات العامة، الحراك الاجتماعي، واستقرار الوظائف والحماية القانونية للعاملين.

 

حماية الطبقة المتوسطة.. سياسة أمن قومي لا يفهمها هذا النظام

 

ما يقترحه معصوم مرزوق من سياسات لحماية الطبقة المتوسطة – من ضبط التضخم، إلى إصلاح ضريبي عادل، وسكن وتعليم وصحة ونقل عام ميسّر، وتشريعات للعمل المستقر، ودعم ريادة الأعمال المتوسطة والصغيرة، وصناديق تأمين ضد البطالة ومعاشات عادلة – ليس «برنامج رفاهية» بل حدّ أدنى لبقاء الدولة الحديثة متماسكة. جوهر الفكرة أن استقرار هذه الطبقة يعني استمرار المؤسسات وثبات الثقة العامة وانخفاض احتمالات الانفجار السياسي، بينما تآكلها يفتح الباب للتطرف، والاضطرابات، وتفكك العقد الاجتماعي. لكن نظاماً يستند إلى القبضة الأمنية لا إلى التمثيل السياسي الحقيقي، ويرى في أي طبقة مستقلة وقوية خطرًا على احتكاره للمشهد، لن يتبنى طوعاً سياسات تُنتج مواطنين أحراراً يطالبون بحقوقهم. لذلك يسير المسار في الاتجاه المعاكس: سحق متواصل للطبقة المتوسطة، ربط لقمة عيشها بقرارات فوقية لا تشارك في صنعها، وتفريغ بطيء لرصيدها من الأمل والثقة. في مثل هذا السياق، لا يكون تآكل الطبقة المتوسطة عرضاً جانبياً، بل نتيجة منطقية لحكم لا يرى في المجتمع شريكاً، بل كتلة صامتة مطلوبة فقط للطاعة وسداد الفاتورة.