لم تكن قصواء الخلالي تتخيّل، وهي التي كرّست سنوات من عملها الإعلامي لتلميع السيسي ونظامه، أن تكتب يومًا استغاثة شخصية إلى الرجل نفسه.
لكن ما جرى مؤخرًا – وفق ما تم تداوله – من القبض على شقيقها، ثم رئيس تحرير موقعها، حوّل الإعلامية المقرّبة من السلطة إلى صاحبة "مظلومية" تستعطف قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي وتصفه بأنه من "المصلحين"، في محاولة أخيرة للنجاة من طاحونة أمنية لا ترحم.
القضية هنا لا تتعلق باسم إعلامية بعينها، بقدر ما تكشف نمطًا متكرّرًا في حكم السيسي: لا أحد في مأمن. لا الحلفاء، ولا الأبواق، ولا من ظنوا أن ولاءهم المطلق للنظام سيمنحهم حصانة أو يحميهم من بطش الأجهزة.
فأي صوت ينطق خارج النصّ المرسوم، أو يتقاطع مع صراع أجنحة داخل الدولة العميقة، يمكن أن يتحول في لحظة من "مؤيد نموذجي" إلى "هدف أمني" بلا ضجيج.
من مذيعة النظام إلى مستغيثة بالسيسي
قصواء الخلالي لم تكن – يومًا – محسوبة على صفوف المعارضة أو حتى النقد الخافت.
ظهرت في برامجها على شاشات موالية، تدافع عن سياسات النظام، وتهاجم خصومه، وتتبنى روايته الرسمية في أغلب الملفات.
مثلها مثل عشرات الإعلاميين الذين تحولوا إلى أذرع ناعمة لأجهزة الدولة، تسوّق الخطاب الواحد وتشرعن القبضة الأمنية وتبرر القمع.
لكن حين وصل السيف إلى عنق دائرتها الشخصية، تغيّر الخطاب فجأة:
- استغاثة مباشرة بالسيسي.
- لغة دينية/عاطفية تصفه بـ"المصلح".
- تذكير ضمني بأنها "خدمت" الرواية الرسمية طويلًا، وتستحق معاملة مختلفة.
هذه المفارقة تكشف جوهر المعادلة: حتى داخل "معسكر التأييد"، لا توجد قواعد ثابتة. الولاء لا يحمي، والتطبيل لا يشفع، والأجهزة الأمنية تملك دائمًا الكلمة الأخيرة.
لم تكن #قصواء_الخلالي تتخيّل أن تكتب يوما استغاثة إلى #السيسي، وهي من أفنت عمرها في تلميع نظامه.. لكنها فجأة وجدت أن يد الدولة التي كانت تُصفق لها، تَطرق بابها بالحذاء!.. حيث اعتقلوا شقيقها، ورئيس تحرير موقعها أيضا!
— وطن. يغرد خارج السرب (@watanserb_news) December 7, 2025
والآن تستغيث بالسيسي: إنا نراك من المصلحين! ليست وحدها فالنظام… pic.twitter.com/Q18qKCA2mH
دائرة الخوف تضيق: حين يلتهم النظام أبناءه
ما حدث مع قصواء – أيا كانت تفاصيله الدقيقة – ليس حالة فردية، بل حلقة في سلسلة طويلة من وقائع طالت وجوهًا محسوبة على النظام ذاته.
رجال أعمال "مقرّبون" جرى تحجيمهم أو مصادرة جزء من شركاتهم.
نواب وإعلاميون وبرلمانيون تم إقصاؤهم فجأة أو تهميشهم بعد أن أدوا أدوارهم.
ضباط سابقون وإداريون كانوا جزءًا من الدائرة، فتحوا أعينهم ذات صباح ليجدوا أنفسهم متهمين أو ملاحقين أو على الأقل مُبعَدين.
كل ذلك يرسل رسالة واحدة:
النظام الذي بنى حكمه على الخوف، مضطر لتوسيع دائرة الترهيب بشكل دائم، حتى لا يترك داخل بيته أي هامش لاستقلالية أو نفوذ شخصي خارج السيطرة المباشرة.
وحين يشتد الصراع بين مراكز القوى داخل الدولة، تصبح الشخصيات "شبه الرسمية" – كالإعلاميين المقرّبين – مجرد أدوات قابلة للاستبدال، أو أوراق ضغط متبادلة بين الأجهزة.
أجهزة متصارعة وصوت واحد مسموح به
من بين أخطر ما تكشفه هذه الوقائع هو غياب مركز واضح للقرار، واتساع هامش حركة الأجهزة الأمنية بدرجات متفاوتة من التنسيق أو الصراع.
قد ينطلق تحقيق أو اعتقال من جهاز ما، دون علم أو رغبة جهاز آخر، أو حتى دون تنسيق سياسي مسبق، ثم يُترَك الأمر للأقوى لفرض روايته.
في هذه الأجواء، يصبح من الممكن أن يقع إعلامي "مخلص" في مرمى نيران جناح ما، لأنه اقترب من ملف يخص جناحًا آخر، أو لأنه ظُنّ أنه بات أكبر من الدور المحدَّد له.
النتيجة النهائية واحدة:
- مسموح بصوت واحد فقط، متطابق مع رؤية السيسي الضيقة للأمن والسياسة والإعلام.
- أي اجتهاد، أو خروج ولو بسيط عن النص، أو حتى خلاف بين الأجهزة نفسها على "من يدير هذا الصوت"، قد يجعل صاحبه يدفع الثمن سريعًا.
رسالة ردع لكل الأبواق
استغاثة قصواء، وقبلها صمت آخرين اختفوا فجأة من الشاشات أو تقلص حضورهم، تؤدي وظيفة أخرى بالنسبة للنظام:
هي ليست مجرد "أضرار جانبية" لصراعات داخلية، بل أيضًا رسائل ردع لبقية الأبواق:
- لا تراكموا شعبية شخصية خارج ما نسمح به.
- لا تعتبروا أن قربكم من الشاشات الرسمية يمنحكم حصانة.
- لا تظنوا أن لكم مكانة فوق سيف الأجهزة.
بهذا تتحول كل واقعة من هذا النوع إلى درس قاسٍ لكل من يرفع الميكروفون أو يجلس أمام الكاميرا خدمة لخطاب السلطة:
"في لحظة ما، قد يُعامَل بنفس القسوة التي طالت المعارضين الذين حرّض ضدهم، دون أن يجد من يدافع عنه أو يتذكر "تاريخه في دعم الدولة".
نظام لا يحتمل حتى التأييد المشروط
جوهر الأزمة أن نظام السيسي لا يحتمل أصلًا فكرة "التأييد المشروط" أو "الدعم الناقد".
المطلوب دائمًا هو ولاء أعمى، بلا أسئلة ولا خطوط حمراء، واستعداد دائم للانقلاب على أي رواية سابقة إذا تغيّر الخط الرسمي بين ليلة وضحاها.
لذلك حين يجرؤ إعلامي – مهما كان مواليًا – على طرح سؤال خارج المسموح، أو التلميح إلى ظلم ما، أو حتى الدفاع عن نفسه أمام تعسّف أمني، يُنظر إليه فورًا كخطر محتمل يجب كسره بسرعة، حتى لا يتحول إلى نموذج يُحتذى.
وهكذا، تتحول استغاثة قصواء الخلالي إلى وثيقة إدانة لنظام يرهب حتى من صنعهم بيده، ويؤكد أن منطق الحكم السائد في مصر اليوم بسيط ووحشي:
لا أمان لأحد، لا في المعارضة ولا في داخل الدائرة الأقرب، ما دام الصوت لا يطابق تمامًا "رؤية الزعيم" وما دامت الأجهزة المتصارعة تتغذى على المزيد من الضحايا لإثبات نفوذها.

