بينما تروج حكومة الانقلاب لخطط ضخمة لتحقيق «الأمن الغذائي» وزيادة إنتاج القمح، وتتباهى بالأرقام الرسمية عن توسع المساحات المزروعة والخريطة الصنفية والتقاوي المعتمدة، يعيش الفلاح المصري كابوسًا يوميًا اسمه: السماد.
قرارات مشددة، واشتراطات معقدة، وأسعار رسمية على الورق فقط، في مقابل شح حاد في الجمعيات الزراعية، وانفلات مجنون في السوق السوداء، وتفجير متعمد لتكلفة الزراعة على حساب صغار المزارعين، لصالح نظام لا يرى في السماد إلا مصدرًا إضافيًا للدولار عبر التصدير.
وزارة الزراعة أعلنت، في بيان رسمي، مجموعة من «الضوابط» لصرف المقررات السمادية للموسم الشتوي 2025/2026، تحت شعار إحكام الرقابة وضمان وصول الدعم للمستحقين.
لكن خلف الشعارات، تكشف التفاصيل عن سياسة ممنهجة لعقاب الفلاحين، وتحميلهم وحدهم ثمن فشل الدولة في إدارة ملف الأسمدة، مقابل فتح الأبواب على مصراعيها أمام التصدير والربح السريع لشركات الكيماويات والأسمدة.
ضوابط أم عقاب جماعي للفلاحين؟
أخطر ما في قرارات الوزارة هو ربط صرف المقررات السمادية بعدم وجود «مخالفات تعدٍ على الأراضي الزراعية أو حماية الرقعة الزراعية».
في الواقع، كثير من هذه المخالفات مسؤول عنها بالأساس غياب التخطيط، وترك المواطن فريسة الغلاء وانهيار السكن، بينما يستخدمها النظام الآن ذريعة لقطع السماد عن آلاف المزارعين، بدلاً من محاسبة المتورطين الحقيقيين في تجريف الأراضي وتبويرها.
إلى جانب ذلك، تشترط الوزارة إجراءات ورقية مرهقة: إقرارات على الطبيعة، ومتابعة حصر، وتوقيع شخصي عند الاستلام، وتوكيلات رسمية للورثة.
في بلد يعيش فيه الفلاح البسيط على الكفاف، يتحول الذهاب إلى الجمعية الزراعية إلى معركة مع البيروقراطية، فقط من أجل الحصول على «شيكارتين سماد» بالكاد تكفيان لتحمل جزء من تكلفة الزراعة.
أسعار رسمية على الورق.. وسوق سوداء تحكم الواقع
الوزارة تعلن بكل ثقة أن سعر شيكارة اليوريا 269 جنيهًا، والنترات 264 جنيهًا، مع توجيه الجمعيات لتعليق لوحات بأسعار الأسمدة «الرسمية» بدعوى الشفافية.
لكن ما يواجهه الفلاح في الحقيقة شيء آخر تمامًا:
- اليوريا في السوق السوداء وصلت إلى نحو 1700 جنيه للشيكارة.
- النترات إلى 1650 جنيهًا.
- السوبر فوسفات إلى 1350 جنيهًا.
هذه الأرقام، التي نقلها فلاحون من المنوفية ومحافظات أخرى، تكشف عن فجوة مرعبة بين خطاب الوزارة وواقع الأرض. أي شفافية حين يضطر الفلاح لشراء السماد بأضعاف السعر المعلن، لأنه لا يجد شوالًا واحدًا في الجمعية؟
شح في الجمعيات.. وفائض للتصدير
نقيب الفلاحين بالقليوبية جلال عزت، حذر صراحة من شح المعروض من الأسمدة في الجمعيات منذ شهور، ما أجبر المزارعين على اللجوء للسوق السوداء بأسعار خيالية، وحذر من تراجع الدعم الحكومي وعدم وصوله لمستحقيه، وتأثير ذلك على مواعيد التسميد والإنتاجية وجودة المحاصيل.
في المقابل، يتباهى المجلس التصديري للكيماويات والأسمدة بأن صادرات القطاع في النصف الأول من 2025 بلغت 4.6 مليارات دولار، بزيادة 13% عن الفترة نفسها من 2024.
المشهد واضح:
- الأسمدة «المحلية» نادرة لمن يزرع أرضه في مصر.
- والأسمدة «المصرية» متدفقة إلى الخارج لجلب الدولار وإنعاش خزائن النظام.
هكذا يُترك الفلاح بلا دعم حقيقي، بينما تتحول مصانع الأسمدة إلى أذرع للتصدير أولًا، ثم للسوق السوداء ثانيًا، وللفلاح – إن تبقى شيء – فتات لا يكفي لتسميد نصف أرضه.
سماد مغشوش ومحاصيل مهددة
مع نقص المعروض في الجمعيات، حذر نقيب الفلاحين أيضًا من انتشار السماد المغشوش في السوق السوداء.
فلاح بسيط، محاصر بين الأسعار المشتعلة وغياب الدعم، يضطر أحيانًا إلى شراء أسمدة مشكوك في جودتها، قد تضر بالأرض والمحصول معًا، فقط لأنه لا يجد بديلًا رسميًا متاحًا بالكميات والسعر المعلن.
هذا الوضع يهدد مباشرة إنتاج القمح وغيره من المحاصيل الإستراتيجية التي تدّعي حكومة الانقلاب أنها تعطيها «أولوية قصوى».
الوزير يتحدث عن استهداف زراعة 3.5 مليون فدان قمح، وتوقع وصول الإنتاج إلى 10 ملايين طن، وزيادة الكميات الموردة للدولة إلى 4 ملايين طن بزيادة 16%.
لكن هذه الأرقام قد تتحول إلى مجرد دعاية على الورق إذا استمر خنق الفلاح في أهم مدخل للإنتاج: السماد.
أمن غذائي في التصريحات.. وخنق للفلاح في الحقول
في التقارير الرسمية، تتغنى الوزارة بالخريطة الصنفية، والتقاوي المعتمدة، والإرشاد الزراعي، وتقديم كل أشكال «الدعم غير المسبوق» للفلاحين.
لكن على أرض الواقع، الفلاح الذي لا يجد سمادًا بالسعر المدعوم، ويُجبَر على الشراء من السوق السوداء، يُدفع في اتجاه واحد:
- إما تقليص المساحات المزروعة.
- أو تخفيض جرعات السماد، بما يعني محصولًا أقل وإنتاجية أضعف.
- أو ترك الأرض بورًا، هربًا من خسارة مؤكدة.
بهذا تصبح سياسات حكومة الانقلاب نفسها جزءًا من تهديد الأمن الغذائي، لا حمايته.
بدلًا من دعم الفلاح ليزيد الإنتاج، تُستخدم الأسمدة أداة ضغط وابتزاز، ويُترك صغار المزارعين تحت رحمة تجار السوق السوداء وشركات التصدير، بينما يحتكر النظام خطاب «حماية الرقعة الزراعية» كشعار لتبرير حرمانهم من حقهم في السماد المدعوم.
من يمنع السماد.. يمنع القمح
النتيجة النهائية لهذه السياسة واضحة: أي تراجع في إتاحة السماد بالكميات والأسعار المناسبة، سيقود حتمًا إلى تراجع إنتاج القمح وغيره من المحاصيل، ما يعني زيادة فاتورة الاستيراد، وارتهانًا أكبر للخارج في لقمة عيش المصريين.
في الوقت الذي يفاخر فيه المسؤولون بزيادة صادرات الأسمدة والبتروكيماويات، يدفع الفلاح ثمن هذه السياسة من عرقه، ويدفع المواطن ثمنها من جيبه حين ترتفع أسعار الخبز والغذاء.
حكومة تحوّل السماد من أداة لدعم الزراعة إلى أداة لجمع العملة الصعبة، ومن حق للفلاح إلى وسيلة عقاب وضغط، لا يمكن أن تدّعي جديّة في تحقيق الأمن الغذائي. من يمنع السماد عن الفلاح، يمنع القمح عن الشعب.

