أثارت لقطات مصورة بثتها وسائل إعلام عبرية موجة واسعة من الجدل داخل كيان الاحتلال، بعدما أظهرت لحظة فرار رومان جوفمان، رئيس الموساد الجديد، أمام مقاتلي كتائب القسام صبيحة السابع من أكتوبر.

 

وتُظهر المقاطع جوفمان، الذي كان يشغل حينها منصبًا عسكريًا رفيعًا، وهو يرتدي بزته العسكرية على أحد مفترقات الطرق قرب القطاع قبل أن يفاجئه مقاتل من القسام بوابل من النيران المباشرة.

 

وتكشف المشاهد عن حالة ذهول واضحة أصابت جوفمان، الذي فرّ مسرعًا بعد إصابته في قدميه، فيما بقي مقاتل القسام ثابتًا في موقعه بانتظار تعزيزات العدو للاشتباك معها.

 

وتوثق كاميرات المراقبة استمرار جوفمان في الهرب لمسافة طويلة، في مشهد وصفته الصحافة العبرية بـ”المهين” بالنظر إلى مكانته العسكرية.

 

وبحسب الرواية المتداولة في الإعلام العبري؛ تمكن جوفمان من الوصول إلى مركبة عسكرية إسرائيلية قبل أن ينهار على الأرض نتيجة إصابته، فيما أظهرت صور نشرتها حسابات عبرية سيارة الإسعاف التي نقلته وهي ملطخة بدمائه.

 

وقد أثارت هذه اللقطات موجة سخرية واسعة داخل منصات التواصل الإسرائيلية، خاصة مع بروز مفارقة تولّيه أعلى منصب استخباراتي بعد أقل من عام على هذا المشهد.

 

وتداولت حسابات عبرية تصريحات سابقة لجوفمان عقب عملية “طوفان الأقصى”، كان قد قال فيها: “لقد فشلنا.. لكننا قاتلنا مثل الأسود لوقف الهجوم”، قبل أن تتساءل تلك الحسابات عن كيفية الجمع بين صورة “المقاتل الشرس” وتصرفه أثناء إطلاق النار، ما أطلق موجة انتقادات حادة لطريقة اختيار القيادات في دولة الاحتلال.

 

أبعاد الفضيحة

 

وتكشف هذه الفضيحة عن أزمة ثقة داخل المنظومة العسكرية الإسرائيلية، إذ أعادت إلى الواجهة تساؤلات قديمة حول معايير اختيار القادة وجدارتهم المهنية. فذعر وهروب جوفمان أمام مقاتل واحد من “القسام” ثم منحه بعد ذلك قيادة الموساد، يُعد بنظر كثيرين مؤشرًا على اختلال عميق في منظومة التعيينات، خاصة بعد الهزّة الاستراتيجية التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى.

 

ومن الواضح أن توقيت تسريب هذه اللقطات لم يكن بريئًا، بل جاء في لحظة تتصاعد فيها الانتقادات الداخلية للمؤسسة الأمنية، التي تواجه اتهامات بالفشل على مستويات الإنذار والتعامل الميداني والجاهزية. ومن شأن ظهور قائد رفيع بهذه الصورة أن يُفاقم شعور الإسرائيليين بأن النخبة الأمنية ليست في مستوى التحديات التي تواجهها البلاد.

 

كما تضرب هذه الحادثة صورة “القائد المحارب” التي تعتمد عليها “إسرائيل” في ترويج ثقة الجمهور بالمؤسسة العسكرية. إذ لم يعد الأمر يتعلق بجندي بسيط وقع في حالة خوف، بل بشخص اختير لاحقًا لقيادة أهم جهاز أمني في الكيان، ما يجعل المشهد محمّلًا بدلالات سياسية ونفسية عميقة. ويشير ذلك إلى فجوة بين ما يروّج له قادة الاحتلال وبين ما تكشفه الوقائع على الأرض.

 

وتنعكس تبعات هذه الفضيحة على صورة الردع الإسرائيلية، إذ يستغل الإعلام الفلسطيني المقاوم هذه اللقطات للتشكيك في قدرة قادة الاحتلال على المواجهة. وهذا يضرب أحد الأعمدة الأساسية التي تعتمد عليها “إسرائيل” في رسم مكانتها الإقليمية والدولية، إذ ازداد حضور خطاب “ضعف القيادة” داخل النقاشات الإسرائيلية بعد الحرب، وجاءت تلك اللقطات لتمنح هذا الخطاب مادة إضافية للتوسع.

 

المقاومة تغير معادلة القوة

 

وتأتي هذه اللقطات لتبرز الأثر العميق الذي أحدثته عمليات المقاومة الفلسطينية، خصوصًا في 7 أكتوبر، على بنية جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية. فقد فاجأت المقاومة المحتل بقدرتها على اختراق خطوط التماس التقليدية، وتحقيق إنجازات ميدانية دفعت جنودًا وقادة إلى ردود فعل فوضوية، كما ظهر في حالة جوفمان. وهذا يكشف عن مستوى الضغط الذي فرضته المقاومة على وحدات الاحتلال في الساعات الأولى للعملية.

 

وتؤكد حادثة فرار جوفمان ما أشارت إليه تقارير إسرائيلية حول حالة الارتباك الشديد التي سيطرت على قيادات ميدانية عليا في ذلك اليوم. فمشاهد الانسحاب غير المنظم، وفقدان السيطرة، والارتباك في اتخاذ القرار، كلها مظاهر أسهمت المقاومة في تفجيرها عبر عنصر المفاجأة وتعدد محاور الهجوم. وما ظهر في اللقطات ليس سوى مثال مُصوّر لواقع أوسع شهدته الوحدات العسكرية.

 

كما تعكس هذه الحادثة ما يُعرف بـ”تحطيم صورة البطل الإسرائيلي”، وهو أثر نفسي استراتيجي طال المؤسسة العسكرية منذ طوفان الأقصى. فالمقاومة لم تُحدث فقط خسائر بشرية ومادية، بل ضربت العمود النفسي الذي يقوم عليه الجيش، عبر إظهار جنود وقادة في حالات خوف وانهيار. وحتى بعد مرور عام على العملية؛ لا تزال هذه الصور تُستخدم لتقويض صورة الردع الإسرائيلي على المستويين الشعبي والعسكري.

 

ولا يمكن فصل تولّي جوفمان رئاسة الموساد رغم هذا السجل عن حالة الارتباك التي تعيشها القيادة الإسرائيلية في إعادة ترتيب مؤسساتها الأمنية. إذ يبدو أن الخيارات المتاحة أمام نتنياهو باتت محدودة، وأن إعادة تدوير القيادات القديمة تأتي في ظل عجز واضح عن إنتاج قيادة جديدة قادرة على مواجهة ما فرضته المقاومة من تحديات. وبذلك تصبح حادثة هروب جوفمان رمزًا لفترة الانهيار التي واجهتها “إسرائيل” وما زالت آثارها مستمرة.