يتناول الدكتور العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف مفهوم التطرف الديني بين الحقيقة والاتهام، من حيث تعريفه اللغوي والشرعي، وارتباطه بالغلو والتنطع والتشديد، في ضوء منهج الإسلام القائم على الوسطية والاعتدال. كما يستعرض جملة من النصوص القرآنية والحديثية وأقوال العلماء، التي تحذر من الغلو وتحارب الرهبنة والتحريم غير المشروع للطيبات، مع إبراز توازن الإسلام بين الدنيا والآخرة، والروح والجسد، والعبادة وعمارة الأرض.
أولاً: التطرف بين الحقيقة والاتهام
يقول علماء المنطق: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إذ لا يمكن الحكم على المجهول، كما لا يمكن الحكم على شيء مختلف في تحديد ماهيته، وتصوير حقيقته: أي شيء هـي؟
لهذا كان علينا بادئ ذي بدء أن نكشف عن معنى " التطرف الديني " وحقيقته وأبرز علاماته. والتطرف في اللغة معناه: الوقوف في الطرف، بعيدا عن الوسط، وأصله في الحسيات، كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي، ثم انتقل إلى المعنويات، كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك. [ ص: 23 ]
ومن لوازم التطرف: أنه أقرب إلى المهلكة والخطر، وأبعد عن الحماية والأمان، وفي هـذا قال الشاعر:
كانت هـي الوسط المحمى فاكتنفت بها الحوادث، حتى أصبحت طرفا!
ثانياً: دعوة الإسلام إلى الوسطية وتحذيره من التطرف
والإسلام منهج وسط في كل شيء: في التصور والاعتقاد، والتعبد والتنسك، والأخلاق والسلوك، والمعاملة والتشريع.
وهذا المنهج هـو الذي سماه الله " الصراط المستقيم " وهو منهج متميز عن طرق أصحاب الديانات والفلسفات الأخرى من " المغضوب عليهم " ومن " الضالين " الذين لا تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط.
و " الوسطية " إحدى الخصائص العامة للإسلام، وهي إحدى المعالم الأساسية التي ميز الله بها أمته عن غيرها ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143) ، فهي أمة العدل والاعتدال، التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يمينا أو شمالا عن خط الوسط المستقيم.
ثالثاً: النصوص الشرعية تعبّر عن التطرف بـ"الغلو"
والنصوص الإسلامية تدعو إلى الاعتدال، وتحذر من التطرف، الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها: " الغلو " و " التنطع " و " التشديد " . [ ص: 24 ]
والواقع أن الذي ينظر في هـذه النصوص يتبين بوضوح أن الإسلام ينفر أشد النفور من هـذا الغلو، ويحذر منه أشد التحذير.
وحسبنا أن نقرأ هـذه الأحاديث الكريمة، لنعلم إلى أي حد ينهى الإسلام عن الغلو، ويخوف من مغبته.
1- روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه في سننهما، والحاكم في مستدركه ( عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والغلو في الدين، فإنما هـلك من قبلكم بالغلو في الدين )
والمراد بمن قبلنا: أهل الأديان السابقة، وخاصة أهل الكتاب، وعلى الأخص: النصارى ، وقد خاطبهم القرآن بقوله: ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) (المائدة:77) ، فنهانا أن نغلو كما غلوا، والسعيد من اتعظ بغيره.
وسبب ورود الحديث ينبهنا إلى أمر مهم، وهو أن الغلو قد يبدأ بشيء صغير، ثم تتسع دائرته، ويتطاير شرره، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل المزدلفة في حجة الوداع ( قال: لابن عباس : هـلم القط لي - أي حصيات ليرمي بها في منى - قال: فلقطت له حصيات من حصى الخذف - يعني حصى صغارا مما يخذف به - فلما وضعهن في يده، قال: نعم بأمثال هـؤلاء، وإياكم والغلو في الدين... ) الحديث يعني: لا ينبغي أن يتنطعوا فيقولوا: الرمي بكبار الحصى [ ص: 25 ] أبلغ من الصغار، فيدخل عليهم الغلو شيئا فشيئا، فلهذا حذرهم.
وقال الإمام ابن تيمية : قوله ( إياكم والغلو في الدين ) عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو: مجاوزة الحد... والنصارى أكثر غلوا في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، بقوله تعالى: ( لا تغلوا في دينكم ) (النساء:171) .
2 - وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هـلك المتنطعون ) قالها ثلاثا.
قال الإمام النووي : أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
ونلاحظ أن هـذا الحديث والذي قبله جعلا عاقبة " الغلو والتنطع " هـي الهلاك، وهو يشمل هـلاك الدين والدنيا، وأي خسارة أشد من الهلاك، وكفى بهذا زجرا.
3 - وروى أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ) (ذكره ابن كثير تفسير سورة الحديد].
ومن أجل ذلك قاوم النبي صلى الله عليه وسلم كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف، مبالغة [ ص: 26 ] تخرجه عن حد الاعتدال الذي جاء به الإسلام، ووازن به بين الروحية والمادية، ووفق بفضله بين الدين والدنيا، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة، التي خلق لها الإنسان.
رابعاً: توازن الإسلام بين العبادة وعمارة الأرض
فقد شرع الإسلام من العبادات ما يزكي نفس الفرد، ويرقى به روحيا وماديا، وما ينهض بالجماعة كلها، ويقيمها على أساس من الأخوة والتكافل، دون أن يعطل مهمة الإنسان في عمارة الأرض، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، عبادات فردية واجتماعية في نفس الوقت، فهي لا تعزل المسلم عن الحياة ولا عن المجتمع، بل تزيده ارتباطا به، شعوريا وعمليا، ومن هـنا لم يشرع الإسلام " الرهبانية " التي تفرض على الإنسان العزلة عن الحياة وطيباتها، والعمل لتنميتها وترقيتها، بل يعتبر الأرض كلها محرابا كبيرا للمؤمن، ويعتبر العمل فيها عبادة وجهادا، إذا صحت فيه النية، والتزمت حدود الله تعالى.
ولا يقر ما دعت إليه الديانات والفلسفات الأخرى من إهمال الحياة المادية لأجل الحياة الروحية، ومن حرمان البدن وتعذيبه حتى تصفو الروح وترقى، ومن إهدار شأن الدنيا من أجل الآخرة، فقد جاء بالتوازن في هـذا كله ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) (البقرة:201) . ( اللهم أصلح لي ديني الذي هـو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ) ( إن لبدنك عليك حقا )
لقد أنكر القرآن، بل شدد النكير، على أصحاب هـذه النزعة في تحريم الطيبات والزينة التي أخرج الله لعباده، فقال تعالى في القرآن المكي : [ ص: 27 ] ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) (الأعراف:31) .
وفي القرآن المدني يخاطب الجماعة المؤمنة بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) (المائدة:87، 88) .
خامساً: رفض الرهبنة وتحريم الطيبات بلا دليل
وهاتان الآيتان الكريمتان تبينان للجماعة المؤمنة حقيقة منهج الإسلام في التمتع بالطيبات، ومقاومة الغلو الذي وجد في بعض الأديان، فقد روي في سبب النزول أن رهطا من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كالرهبان! وروى أن رجالا أرادوا أن يتبتلوا أو يخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح (ملابس الرهبان) فنزلت..
وجاء ( عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت من هـذا اللحم انتشرت للنساء، وإني حرمت علي اللحم. فنزلت: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ) )
وفي الصحيحين ( عن عائشة رضي الله عنها : أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فكأنهم تقالوها (أي عدوها قليلة) فقال بعضهم: لا آكل اللحم.. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ) [ ص: 28 ] ( ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
وسنته - عليه الصلاة والسلام - تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه، وكيف يعامل ربه عز وجل ، ويعامل نفسه وأهله والناس من حوله - معطيا كل ذي حق حقه، في توازن واعتدال.

