اعتراف شريف الشربيني، وزير الإسكان بحكومة الانقلاب، بدراسة جدوى لبيع مباني الوزارات القديمة وبعض مباني وسط البلد، ليس "تطويرًا عمرانيًا" كما يزعم، بل حلقة جديدة في مسلسل تصفية أصول الدولة لسد فجوة ديون صنعها الجنرالات بأنفسهم. في بلد غارق في الديون، وتحت ضغط صارخ من صندوق النقد الدولي لتسريع برنامج بيع أصول الدولة، تتحول القاهرة التاريخية من فضاء عام وممتلكات شعبية إلى "فرصة استثمارية" مطروحة على طاولة المستثمرين المحليين والخليجيين والأجانب.

 

من وزارات الشعب إلى فنادق للنخبة

 

الشربيني يقدم خطة بيع مباني الوزارات القديمة على أنها "تطور طبيعي للتنمية العمرانية"، ويتحدث عن تحويل المباني التراثية إلى فنادق أو مقار شركات، وكأن وظيفة الدولة الأصلية هي خدمة السياح والمستثمرين لا المواطنين. جوهر التصريح أن هناك "دراسة جدوى" لبيع هذه المواقع لتحقيق عوائد مالية، أي أن الدولة لا ترى في مباني الوزارات ووسط البلد تراثًا عامًا أو مساحة لحق المواطنين في مدينتهم، بل أرقامًا يمكن تحويلها إلى دولارات وجنيهات لسد عجز الموازنة وخدمة الديون. في الخلفية، يقف صندوق مصر السيادي الذي تسلّم بالفعل ملكية عشرات المباني الحكومية في وسط القاهرة، وبدأ في طرح 7–8 مقرات وزارية سابقة على المستثمرين منذ 2024، في إطار سياسة رسمية لتحويل مقرات السلطة إلى فنادق فاخرة وشقق فارهة بأعلى سعر ممكن، دون أي نقاش مجتمعي حقيقي حول حق الجمهور في هذه الأصول.

 

وسط البلد بين "التطوير" والتهجير

 

رغم نفي الشربيني تجهيز وسط البلد للبيع، فإن الواقع يقول إن حكومة الانقلاب تمضي فعليًا في مشروع شامل لإعادة تشكيل قلب القاهرة بما يخدم رأس المال لا السكان. الخطة الرسمية تتحدث عن "إعادة توظيف" مباني الوزارات في الدائرة الحكومية، وتحويلها إلى فنادق ومجمعات سكنية وإدارية راقية، مع إضافة آلاف الغرف الفندقية والشقق الخدمية، بينما تُمرَّر كل هذه التحولات تحت لافتة "رفع كفاءة القاهرة التاريخية". ما جرى في مثلث ماسبيرو يقدم نموذجًا صارخًا: تهجير آلاف الأسر من واحدة من أقدم المناطق النيلية في العاصمة بحجة إزالة العشوائيات، ثم تسليم الأرض لاحقًا لشركات تطوير عقاري محلية وخليجية لبناء أبراج فاخرة وفنادق ومكاتب مطلة على النيل، في مشروع معلن لتحويل المنطقة إلى مركز تجاري وسياحي ضخم.

 

ماسبيرو: من أحياء شعبية إلى أبراج للخواص

 

حين يتحدث الشربيني عن "معالجة عشوائيات ماسبيرو جذريًا" و"سكن بديل مفروش في مجتمعات محترمة"، يتجاهل عمدًا أن مشروع ماسبيرو اعتمد أساسًا على إخلاء نحو 4300 أسرة بين تعويضات نقدية وإجبار على الانتقال إلى مساكن بعيدة مثل الأسمرات، بينما وُعد جزء محدود فقط بالعودة إلى وحدات جديدة في المنطقة نفسها، وبشروط مالية قاسية. في المقابل، تتباهى الحكومة اليوم بأبراج سكنية وإدارية فاخرة ومشروع "تاورز" على النيل، تشارك فيه شركات تطوير كبرى، ضمن خطة رسمية لتحويل المثلث إلى "مركز سياحي وتجاري" عالي الربحية، أي أن ما جرى عمليًا هو نقل الفقراء بعيدًا عن النيل وتسليم الأرض الذهبية للمستثمرين. ما يسمّيه الوزير "قفزة في نوعية الحياة" يعني في الواقع قفزة في عوائد رأس المال، وتكريسًا لسياسة واضحة: إزاحة الفقراء من المواقع المركزية وإحلال طبقات ميسورة وسياح ورجال أعمال مكانهم.

 

من الإيجار القديم إلى تعميق أزمة السكن

 

حين يربط الشربيني بين "تحمل الدولة عبء توفير سكن لمستفيدي قانون الإيجار القديم" وبين مشاريع التطوير، يصبح واضحًا أن ملف الإيجار القديم يُستخدم هو الآخر لتبرير إعادة هيكلة شاملة لسوق السكن لصالح المالكين الكبار والمضاربين العقاريين. الحكومة بالفعل أقرّت تعديلات جذرية على منظومة الإيجار القديم، تذهب تدريجيًا نحو إنهاء عقود قديمة وإخراج ملايين السكان من مساكن مستقرة منذ عقود، بدعوى "العدالة للمالك" و"تحرير السوق". في ظل غياب سياسة إسكان عادلة، وتآكل الأجور أمام موجات تضخم متتابعة ربطتها تقارير دولية بشروط صندوق النقد وبرامج التقشف والخصخصة، يتحول الحديث عن "سكن لائق لكل فئات المجتمع" إلى دعاية مفرغة، بينما الواقع يدفع شرائح واسعة إلى الهامش أو العشوائيات الجديدة أو الهجرة القسرية نحو أطراف المدن.

 

بيع الأصول لسداد فاتورة الفشل

 

ما يجري ليس "استثمارًا رشيدًا" في أصول غير مستغلة، بل تصفية ممنهجة لممتلكات عامة لتوفير سيولة سريعة تسدد أقساط ديون خارجية تجاوزت 165 مليار دولار، في ظل التزام معلن من الحكومة أمام صندوق النقد ببيع أصول بقيمة مليارات الدولارات خلال 2024–2025. وثائق دولية مستقلة تشير بوضوح إلى أن النظام لم يعد يملك خيارات حقيقية سوى بيع ما تبقى من شركات وأراضٍ ومبانٍ حكومية لتلبية شروط المقرضين، مع استمرار توسع الهيئات العسكرية والأمنية في السيطرة على الاقتصاد، وهو ما يعني أن الشعب يدفع ثمن سياسات لم يشارك في صنعها، عبر خسارة أصوله العامة وحقه في مدينته وسكنه ومستقبله. في النهاية، يتحول وسط البلد ومباني الوزارات وماسبيرو وقانون الإيجار القديم إلى أدوات في يد سلطة مفلسة سياسيًا واقتصاديًا، تسابق الزمن لبيع كل ما يمكن بيعه قبل أن يطالبها أحد بحساب حقيقي على عقد كامل من الخراب.