في هذا السياق، لا تبدو مأساة كلوقي ولا هجوم الدمازين سوى حلقتين في سلسلة طويلة من الانتهاكات التي تُرتكب بحق المدنيين والبنى التحتية في مختلف أنحاء السودان، وسط عجز دولي واضح عن فرض وقفٍ مستدام لإطلاق النار، أو محاسبة المسؤولين عن استهداف الأطفال والمنشآت المدنية. وبينما تتحدث السلطات المحلية عن "عودة الهدوء" و"السيطرة على الأوضاع"، تتعمق جراح المجتمع السوداني وتتراكم ملفات الجرائم التي ستحتاج، عاجلاً أم آجلاً، إلى آلية جادة للعدالة والمساءلة.
تتجه الأوضاع الميدانية والإنسانية في السودان نحو مزيد من التدهور، مع استمرار الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" وحلفائها، واتساع نطاق استهداف المدنيين والبنى التحتية الحيوية. فبعد يوم دامٍ في مدينة كلوقي بولاية جنوب كردفان، أعلنت السلطات، الأحد، ارتفاع عدد ضحايا قصف نُسب إلى قوات "الدعم السريع" و"الحركة الشعبية – شمال" إلى 114 قتيلاً، بينهم 63 طفلاً، بالتزامن مع هجوم جديد بطائرات مسيّرة على منشآت خدمية في مدينة الدمازين بولاية النيل الأزرق، ما يرسخ صورة حرب تتجاهل كلياً كلفة المدنيين وحاجاتهم الأساسية.
مجزرة كلوقي: أطفال في مرمى النيران
بحسب وكالة الأنباء السودانية الرسمية، ارتفع عدد ضحايا القصف الذي تعرّضت له مدينة كلوقي في جنوب كردفان إلى 114 قتيلاً، بينهم 63 طفلاً، في حصيلة تعكس جسامة الهجوم وحدته. ونقلت الوكالة عن حاكم الولاية محمد إبراهيم عبد الكريم قوله إن "هناك بعض المصابين حالتهم خطرة، ونتوقع زيادة عدد الوفيات سواء من الأطفال أو المدنيين"، في إشارة إلى احتمال ارتفاع الحصيلة خلال الساعات والأيام المقبلة.
وأشار عبد الكريم إلى أن عدداً من الأهالي اضطروا لنقل ذويهم المصابين إلى مستشفيات خارج المدينة، في ظل محدودية القدرات الطبية المحلية. ورغم هذا المشهد المأساوي، حاول الحاكم طمأنة السكان بالتأكيد على "عودة الهدوء والحياة العامة إلى طبيعتها في المدينة"، وهي صيغة اعتادت السلطات استخدامها في أكثر من جبهة رغم استمرار المخاطر الأمنية وانكشاف الجبهة الداخلية أمام قصف متكرر.
هجمات مسيّرة على الدمازين: استهداف الكهرباء والمياه
لم يقتصر التصعيد على ولاية جنوب كردفان، إذ أعلنت حكومة ولاية النيل الأزرق، الأحد، أن القوات المسلحة تصدت لهجوم من "قوات الدعم السريع" بطائرات مسيّرة استهدف منشآت خدمية في مدينة الدمازين، مركز الولاية الواقعة جنوب شرقي البلاد.
وقالت حكومة الولاية في بيان إن "القوات المسلحة تصدت لاستهداف مليشيا الدعم السريع الإرهابية للأعيان المدنية في مدينة الدمازين"، مؤكدة أن الهجوم كان يهدف إلى ضرب محطة الكهرباء الرئيسية في المدينة. ورغم عدم الإعلان عن تفاصيل دقيقة للخسائر، شددت السلطات على أن تلك المحطة "منشأة خدمية حيوية يعتمد عليها المواطنون في توفير المياه وتشغيل المستشفيات ومراكز غسيل الكلى ورعاية الأطفال حديثي الولادة".
البيان وصف الهجوم بأنه "اعتداء سافر على الخدمات الأساسية يعكس استخفافاً واضحاً بحياة المدنيين واحتياجاتهم الإنسانية"، في وقت تعاني فيه المدن السودانية أصلاً من تراجع حاد في الخدمات العامة بسبب الحرب وانهيار أجزاء واسعة من البنية التحتية.
انقطاع كامل للكهرباء وتداعيات إنسانية
في موازاة الرواية الرسمية، أوضحت "هيئة محامو الطوارئ" (منظمة غير حكومية) في بيان سابق أن طائرات مسيّرة تابعة لقوات "الدعم السريع" استهدفت محطة الكهرباء الرئيسية في مدينة الدمازين، أمس السبت، ما أدى إلى انقطاع كامل للتيار الكهربائي في المدينة، وتضرر إمدادات المياه بشكل مباشر.
هذا النوع من الهجمات على البنى التحتية المدنية الحيوية لا يعني فقط عتمة ليلية أو تعثّر في الخدمات، بل يهدد حياة المرضى في المستشفيات، وخصوصاً في وحدات العناية المركزة وغسيل الكلى وحضانات الأطفال، ويصعّب وصول المواطنين إلى المياه الصالحة للشرب، ويزيد من مخاطر الأوبئة في بلد يعيش أصلاً واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
خريطة السيطرة: بلد منقسم وحرب مفتوحة
منذ أشهر، تتهم السلطات السودانية قوات "الدعم السريع" بشن هجمات متكررة بطائرات مسيّرة على منشآت مدنية، من محطات كهرباء إلى منشآت خدمية أخرى في عدد من المدن شمالاً وشرقاً. وعلى الأرض، تعكس خريطة السيطرة حالة انقسام حادة، إذ تسيطر "الدعم السريع" على ولايات إقليم دارفور الخمس غرب البلاد، باستثناء أجزاء من شمال دارفور لا تزال تحت قبضة الجيش، الذي يسيطر بدوره على معظم مناطق الولايات الـ13 المتبقية، بما فيها العاصمة الخرطوم.
هذا التوزع العسكري، مع غياب أفق سياسي واضح أو مسار تفاوض جدي وفاعل، يفتح الباب أمام استمرار حرب استنزاف طويلة الأمد، يكون المدنيون فيها وقوداً دائماً، سواء عبر القصف المباشر كما في كلوقي أو عبر استهداف الخدمات الأساسية كما في الدمازين.
حرب بلا أفق وتسارع في الكارثة الإنسانية
اندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في أبريل/ نيسان 2023، على خلفية خلافات حول مسار توحيد المؤسسة العسكرية وترتيبات السلطة الانتقالية، لكنها سرعان ما تحولت إلى حرب شاملة اجتاحت العاصمة والأقاليم، وأفضت إلى مقتل عشرات الآلاف، ونزوح نحو 13 مليون شخص داخل البلاد وخارجها، وفق تقديرات أممية وتقارير حقوقية.

