قصة استغاثة المذيعة قصواء الخلالي تفضح جوهر منظومة السيسي: نظام لا يثق في أحد، ويستعمل الناس ثم يرميهم تحت قدم أول صراع داخل الأجنحة.

 

الخلالي لم تكن معارضة ولا متمرّدة، بل وجهًا من وجوه إعلام المخابرات، عملت في قناة تابعة للأجهزة، وكانت جزءاً من ماكينة التلميع والتبرير التي تحاول تجميل الاستبداد وتبييض القمع.

 

اليوم تجد نفسها تستغيث علناً من “التنكيل” بها وبأسرتها، لتكشف أن منطق السيسي بسيط وقاسٍ: لا حصانة لأحد، ومن يظن أنه في “معسكر الحماية” سيكتشف متأخراً أنه مجرد ترس يُكسَر عند أول خلاف أو شبهة صراع مصالح.  

 

اقتحام ملثم واعتقال بلا قانون: مليشيا لا دولة

 

المشهد الذي روته الخلالي عن اقتحام قوة أمنية كبيرة وملثمة لمنزلها، ومصادرة الأجهزة والاعتقالات الغامضة، يشبه سلوك المليشيات لا سلوك دولة تدّعي “سيادة القانون”.

 

دخول المنزل بهذا الشكل، من دون إفصاح عن الجهة المنفذة، ولا إبراز واضح لأسباب قانونية، يعكس طابعاً انتقامياً ورسالة ردع لبيئتها المهنية والاجتماعية: لا أحد فوق العصا الأمنية، حتى لو كان يعمل في قنوات المخابرات نفسها.

 

إجبارها على مرافقة القوة بسيارتها الخاصة ثم تركها في الطريق يكشف رغبة في الإذلال والترويع، وإشعارها بأن مصيرها ومصير عائلتها بالكامل في يد ضباط لا يردعهم قانون ولا يحاسبهم أحد.

 

شقيق مذيعة المخابرات رهينة في معركة تصفية الحسابات

 

اعتقال شقيقها منذر الخلالي، مالك شركة “باستيت ميديا” وموقع “إيجبتك” الذي يضم نحو 250 صحفياً، واختطافه عملياً بلا إعلان واضح عن التهمة أو جهة الاحتجاز، يؤكد أن النظام يتعامل مع الصحافة كملف أمني خالص، حتى إن كانت تعمل بتراخيص رسمية وتحت أعين الأجهزة.

 

شقيق المذيعة تحوّل إلى “رهينة” في معركة تصفية حسابات داخل الدولة العميقة؛ رسالة واضحة: من يخرج عن الخط المرسوم أو يتجاوز حدوداً داخلية غير معلنة، يدفع الثمن هو ومن حوله.

 

اعتقال رئيس التحرير ثم إخلاء سبيله بكفالة بعد تدخل النقابة، يعكس أن القضية ليست “جريمة خطيرة”، بل ورقة ضغط يتم اللعب بها ورفعها وخفضها حسب التعليمات. هذا استخدام فج لإجراءات السجن والنيابة كأدوات تأديب سياسي لا كآليات عدالة.

 

نظام يُهين حتى من خدمه: من مكتب الرئاسة إلى قائمة المغضوب عليهم

 

الخلالي نفسها أشارت إلى أنها عملت في مكتب رئاسة الجمهورية، ولا تزال مرتبطة بعقود استشارية مع جهات حكومية، ومع ذلك تم منعها من الظهور، وقف برنامجها “في المساء مع قصواء”، وحرمانها من مستحقاتها، ثم الانتقال إلى المستوى الأعلى: اقتحام بيتها واعتقال شقيقها وملاحقة شركته.

 

هذه ليست مجرد “إجراءات”، بل نموذج لحالة انتقامية من أي شخص يفترض أنه يعرف الكثير عن خبايا السلطة أو ملفاتها الداخلية، فيُستخدم ضده سلاح السمعة والرزق والعائلة. هنا يتجلى منطق “الدولة المافيا”: من يخدم الزعيم يصبح أكثر عرضة للاحتراق حين تتغير المزاجات أو تتضارب المصالح بين الأجهزة، فيُرمى خارج الشاشة ويُحاصَر مالياً وأمنياً حتى ينكسر أو يختفي.  

 

نقابة الصحفيين بين العجز والابتلاع الكامل 

 

أنه يُعتقل صحفي مثل أحمد رفعت، رئيس تحرير موقع “إيجبتك”، دون إخطار النقابة، ثم تُستدعى النقابة لاحقاً كواجهة شكلية لحضور التحقيق بعد وقوع الانتهاك، فهذا يلخص وضع الصحافة تحت الحكم العسكري. النقابة أُهينت في جوهرها، وتحولت من حصن يفترض أن يحمي الصحفيين إلى كيان يُستدعى لتبرير ما تم، أو لتخفيف الاحتقان بعد أن تكون “المهمة الأمنية” قد أُنجزت.

 

تصريحات بعض أعضاء مجلس النقابة بأن الأمر “كان يمكن تجنبه” لو تم إخطارهم تكشف حجم الوهم؛ الإشكال ليس في عدم الإخطار، بل في أن السلطة ترى في الصحفي مجرد هدف محتمل للتأديب، سواء كان معارضاً أو محسوباً على إعلام الدولة، وأن النقابة لا تُستشار بل تُبلَّغ بعد التنفيذ لتجميل المشهد.  

 

وأخيرا فإن من يطعم الوحش يُؤكل أولاً 

 

صرخة قصواء الخلالي “من يريد تصفية حسابات معي فليقبض عليّ أنا” تلخص مأساة إعلاميي السلطة الذين ظنوا أن قربهم من المخابرات والقصر يحميهم من بطش الاستبداد، فاكتشفوا متأخرين أنهم أول من يُستخدم وأول من يُكسَر. ما يجري ليس حالة فردية، بل جزء من منظومة حكم لا تعترف بمفهوم الحليف والشريك، بل بقاعدة واحدة: من ينفع اليوم يُستخدم، ومن يثير ذرة شك أو شبهة خلاف يُسحق هو وعائلته.

 

في دولة السيسي، القانون مجرد ديكور، والنقابة مجرد ورقة تكميلية، والإعلامي، مهما بالغ في التطبيل، يعرف أنه في أي لحظة قد يستيقظ ليجد “المليشيا” على باب بيته، لا فرق بينه وبين ذلك المعارض الذي سبق أن ساهم في شيطنته على الهواء. هذا هو الثمن الحقيقي لخدمة الطغاة: من يدخل بيت الاستبداد يخلع كرامته عند الباب، ثم يُرمى خارجه مكبلاً حين تنتهي صلاحيته.