بعد مرور شهرين كاملين على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، تبدو الهدنة أقرب إلى وهمٍ سياسي منها إلى واقعٍ إنساني ملموس. فالمدن التي هدأ فيها صوت القصف لم تهدأ فيها معاناة البشر، والسماء التي خلت من الطائرات لم تخلُ من الخوف، والركام الذي توقّف تراكمه لم تتوقف آثاره في النفوس.
ورغم أن أصوات المدافع تراجعت، إلا أن كل ما خلّفته حرب الإبادة ما يزال حاضرًا في تفاصيل الحياة اليومية: من بيوتٍ سويت بالأرض، إلى شوارع بلا ملامح، إلى مدن فقدت بنيتها التحتية، وأرواحٍ تبحث عن ما يشبه الحياة في وسط خرابٍ متجدد.
هدوءٌ خادع.. وأزمات تتسع
يعيش سكان غزة اليوم وسط تناقض قاسٍ بين مصطلح “وقف إطلاق النار” وبين واقع يفيض بالجراح.
الهدوء الذي أعقب الحرب لم يكن إلا فاصلًا هشًّا بين موجتين من المعاناة، فالماء نادر، والكهرباء شبه معدومة، والمدارس مدمرة، والمستشفيات تُدار بعزيمة طواقم طبية أنهكها النقص الشديد في الأدوية والمعدات.
وفي المخيمات العشوائية التي اجتاحتها الأمطار وانكشفت فيها الخيام الهشة، بات البرد خصمًا جديدًا ينضم إلى قائمة أعداء الإنسان في غزة، حيث تتراكم المياه الملوثة، وترتفع مخاطر تفشي الأمراض، خصوصًا بين الأطفال والنساء.
الجارديان: مصطلح الهدنة “وهمٌ خطير”
صحيفة الجارديان البريطانية قدّمت وصفًا صادمًا للواقع قائلة إن “الهدنة” خلقت انطباعًا زائفًا بأن الحياة تعود إلى طبيعتها، بينما يعيش الفلسطينيون في 42% فقط مما تبقّى من أراضي القطاع خلف ما يسمى بـ”الخط الأصفر”.
ووفقًا للصحيفة: أكثر من 360 فلسطينيًا قُتلوا منذ إعلان الهدنة، بينهم ما لا يقل عن 70 طفلًا.
سبعة فلسطينيين يُقتلون يوميًا في المعدل، وهو رقم يوازي مناطق نزاع نشطة.
81 % من المنازل في غزة دُمّرت أو تضررت بشدة.
تسعة من كل عشرة فلسطينيين بلا مأوى.
ومع حلول الشتاء، غمرت الأمطار المخيمات وتدفقت مياه الصرف الصحي، ما جعل الأمراض “ضيفًا يوميًا” على النازحين، بحسب وصف الصحيفة.
The Nation: الحرب لم تنتهِ.. بل ارتدت قناعًا جديدًا
مجلة The Nation الأمريكية عززت هذا الطرح بقولها إن الحرب على غزة لم تتوقف، بل “غيّرت شكلها”، مؤكدة أن القطاع لم يُمنح فرصة للشفاء.
وتشير المجلة إلى أن: الحصار ما يزال يمنع أي تعافٍ حقيقي.
آلاف المرضى بلا علاج، وأكثر من 16,500 شخص، بينهم أطفال، بحاجة عاجلة لرعاية صحية غير متوفرة.
سكان القطاع يشعرون بأنهم تُركوا ليواجهوا مصيرهم دون دعم حقيقي.
وتقول المجلة: “وقف إطلاق النار كشف قسوة الواقع أكثر مما خفف وطأته”.
الأمم المتحدة: الجوع والمرض يضربان يوميًا
ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في فلسطين، نيستور أوموهانجي، الذي يزور غزة حاليًا، قدّم شهادة مؤلمة عن الوضع الإنساني، حيث قال إن معظم العائلات تعيش في ملاجئ مكتظة مهددة بالجوع والمرض.
ومن أبرز ما أكده المسؤول الأممي:
الناس يصطفون لساعات للحصول على الماء والطعام.
النساء يتحملن العبء الأكبر، مع وجود 57 ألف أسرة تعيلها نساء بلا موارد.
ثلث المرافق الصحية فقط تعمل جزئيًا وبظروف كارثية.
الأدوية شبه منعدمة، وحضانات الأطفال ممتلئة حتى آخر سرير.
وقال بصراحة: “لم يعد الناس يطلبون منازل أو مدارس.. بل يطلبون خيمة جافة ومدفأة صغيرة.”
خروقات إسرائيلية مستمرة للاتفاق
ورغم الهدنة المعلنة، تواصل إسرائيل اعتداءاتها في القطاع:
إصابة طفل برصاص قناص إسرائيلي في حي التفاح شرق غزة اليوم.
مئات الخروقات الموثقة منذ 10 أكتوبر:
367 شهيدًا و953 مصابًا منذ بدء سريان وقف إطلاق النار، وفق وزارة الصحة.
كما تسببت الحرب منذ بدايتها في أكتوبر 2023 بـ:
أكثر من 70,360 شهيدًا.
171,047 مصابًا.
دمار قدّرت الأمم المتحدة تكلفة إعادة إعماره بـ 70 مليار دولار.
غاز الطهي... 16% فقط من الحصّة المتفق عليها
وفي مؤشر واضح على استمرار الحصار، قالت حكومة غزة إن الاحتلال سمح بدخول 104 شاحنات غاز فقط من أصل 660 متفق عليها منذ سريان وقف إطلاق النار، أي ما نسبته 16% فقط.
وصف البيان هذا الفارق بأنه “فجوة إنسانية خطيرة تمس كل مناحي الحياة”.
مطالبات دولية باعتقال جنود ومسؤولين إسرائيليين
من ناحية أخرى، تتواصل الجهود القانونية الدولية لملاحقة جنود ومسؤولين إسرائيليين:
مؤسسة هند رجب قدّمت مذكرة للسلطات الإسبانية لاعتقال الجندي بنايا ناحوم المتهم بارتكاب جرائم حرب.
شكاوى سابقة في ألمانيا ضد جندي آخر.
شكوى مقدمة في كندا للمطالبة باعتقال إيهود أولمرت وتسيبي ليفني.
المؤسسة الحقوقية التي تأسست عام 2024 باتت من أبرز الهيئات التي تلاحق المتورطين في جرائم الحرب دوليًا، وقد نجحت بالفعل في تقييد حركة عدد من الجنود الإسرائيليين في أوروبا.
غزة.. مدينة تتنفس بالألم وتصمد بالأمل
ورغم قتامة المشهد الذي ترسمه التقارير الدولية والأممية، تبقى غزة نموذجًا فريدًا للصمود.
فالمدينة التي فقدت بيوتها وشوارعها ومدارسها ومرافقها، لم تفقد إرادتها، والناس الذين انهارت أحلامهم الكبيرة ما زالوا يتمسكون بأحلام صغيرة تكفي لاستمرار الحياة.
في ظل كل هذا الخراب، تبقى غزة شاهدًا على أن الإنسان قادر على الوقوف حتى حين يتكاثر عليه الجوع والبرد والمرض والخذلان الدولي.

