في عددها الصادر الجمعة، 5 ديسمبر 2025، سلّط مركز "مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط" الضوء على التحوّل الدراماتيكي في بنية الاقتصاد العسكري المصري، كاشفاً عن صعود "نجم جديد" في سماء هيمنة الجيش على مقدرات الدولة.

 

التقرير يشرّح بالتفصيل كيف تحوّل جهاز "مستقبل مصر" للتنمية المستدامة، التابع لسلاح الجو، من مجرد مشروع استصلاح زراعي إلى إمبراطورية اقتصادية مترامية الأطراف، تبتلع الاختصاصات المدنية وتعمل في ظل تعتيم كامل وغياب تام للرقابة، بمباركة وتوجيه مباشر من عبد الفتاح السيسي.

 

"سوبر ماركت" الجنرالات.. من الزراعة إلى "الكلاود"

 

يشير التقرير إلى أن الجهاز الذي أُنشئ بقرار جمهوري في 2022، لم يكتفِ بالسيطرة على الرقعة الزراعية، بل تمدد "بسرعة لافتة" ليصبح كياناً موازياً للدولة. فمحفظة مشروعاته لم تعد تقتصر على الزراعة، بل شملت احتكار استيراد القمح، إدارة البورصة السلعية، الاستزراع السمكي، وحتى التوغل في قطاع التكنولوجيا عبر شراكة مع "هواوي" لخدمات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي.

 

هذا التمدد السرطاني، بحسب كارنيغي، يتم عبر منح الجهاز أصولاً وموارد سيادية مملوكة للشعب، ليتم استغلالها تجارياً لصالح مؤسسة عسكرية لا تخضع ميزانيتها لأي نقاش برلماني.

 

ويعتمد هذا الصعود على شخصية العقيد طيار بهاء الغنام، المدير التنفيذي للجهاز، الذي يبدو أنه حاز على ثقة السيسي المطلقة، لدرجة أن الرئيس -المعروف بمقاطعة المتحدثين- استمع إليه لمدة 37 دقيقة كاملة وهو يدوّن الملاحظات، في إشارة واضحة لتفضيل هذا النموذج الجديد على نماذج عسكرية أخرى فشلت سابقاً، مثل "جهاز مشروعات الخدمة الوطنية".

 

مقامرة الأمن الغذائي.. "شفافية" غائبة وفشل في إدارة الواردات

 

تحت عنوان "غياب الشفافية"، يفجر التقرير قنبلة من العيار الثقيل تتعلق بآلية عمل الجهاز في أخطر ملفات الأمن القومي: القمح. فعلى الرغم من الشعارات البراقة حول "الكفاءة"، تسبب تولي الجهاز مسؤولية شراء القمح في 2024 في أزمة حقيقية.

 

يؤكد التقرير -نقلاً عن رويترز- أن الجهاز تسبب في انخفاض حاد في الواردات نتيجة تخليه عن المناقصات الرسمية وتفضيله "المفاوضات غير الرسمية" وتأخير المدفوعات، مما ضرب سمعة مصر لدى الموردين العالميين. والأخطر من ذلك، هو الوضع القانوني الشاذ للجهاز؛ فالقرار الرئاسي رقم 591 بإنشائه لم يُنشر في الجريدة الرسمية، مما يجعل هذا الكيان يعمل فوق القانون وخارج إطار المساءلة، حيث يستحيل التحقق من جدوى أرقامه المعلنة أو تكاليفه الحقيقية.

 

استنزاف بيئي وكلفة باهظة يدفعها المواطن

 

ينقل التقرير الكلفة الباهظة لهذا التوسع، مشككاً في الاستدامة البيئية والاقتصادية لمشروعات مثل "الدلتا الجديدة". فالمشروع يتطلب ميزانيات فلكية (200-250 مليار جنيه لمليون فدان) ويعتمد على استنزاف خطير للمياه الجوفية ومياه الصرف المعالج، مما يهدد التربة على المدى البعيد.

 

ويشير التقرير إلى أن العجز المائي المتوقع (10 ملايين متر مكعب يومياً) سيتم تعويضه من حصة مياه النيل ومن الخزانات الجوفية، في مغامرة غير محسوبة العواقب في ظل الشح المائي. كما أن سياسات الجهاز في "تحقيق الدخل" من البحيرات الداخلية أدت إلى تدمير سبل عيش الصيادين المحليين ورفع تكلفة الرسوم، مما يعكس وجهاً نيوليبرالياً متوحشاً يرتدي بزة عسكرية.

 

دولة داخل الدولة

 

يخلص تقرير "كارنيغي" إلى أن "مستقبل مصر" ليس مجرد شركة ناجحة كما يروج النظام، بل هو تكريس لنموذج "اقتصاد الدولة القائم على الاستدانة".

 

ومع استعداد الجهاز لاقتحام قطاع العقارات وإدارة المدن الجديدة عبر شركة "مدن مصر" ومشروع "نيشنز أوف سكاي" بتكلفة 1.5 تريليون جنيه، يبدو أن السيسي يعيد إنتاج نفس السياسات التي أغرقت البلاد في الديون، ولكن هذه المرة عبر ذراع عسكرية جديدة، أكثر شراسة وأقل خضوعاً للمحاسبة، مما يضع مستقبل الاقتصاد المدني برمته في مهب الريح.

 

https://carnegieendowment.org/middle-east/diwan/2025/12/has-sisi-found-a-competent-military-entrepreneur?lang=ar