في دليل جديد على أن الدولة في عهد الانقلاب قد رفعت يدها تماماً عن حماية المواطن والمنتج على حد سواء، وتركت الأسواق نهباً للفوضى ومافيا المنتفعين، أطلق الدكتور عبد العزيز سيد، رئيس شعبة الثروة الداجنة باتحاد الغرف التجارية، صرخة تحذير مدوية تكشف المستور عن انهيار وشيك لواحدة من أهم الصناعات الاستراتيجية في مصر.

 

التصريحات التي أدلى بها "سيد" ليست مجرد تشخيص لخلل فني، بل هي وثيقة إدانة لحكومة عبد الفتاح السيسي التي سمحت لمجموعة من "السماسرة" باختطاف قوت المصريين، والتلاعب بأسعار الدواجن في "بورصة وهمية" لا تخضع لأي قانون أو رقابة، مما يهدد بتكرار سيناريو المجاعة السعرية الذي ضرب البلاد في 2022، وينذر بكارثة اجتماعية واقتصادية في الريف المصري.

 

ما يحدث في سوق الدواجن هو صورة مصغرة لفشل الدولة: غياب كامل للرؤية، ترك الحبل على الغارب لحيتان السوق، وتدمير ممنهج لصغار المنتجين، بينما تقف الحكومة موقف المتفرج – أو المتواطئ – في انتظار وقوع الكارثة لتبدأ في البحث عن "حلول الترقيع" المعتادة.

 

دولة "السماسرة": حينما تُدار أسعار الغذاء عبر "الواتساب"

 

لم يعد سراً أن تسعير الدواجن في مصر لا يخضع لنظريات العرض والطلب ولا لتكلفة الإنتاج الحقيقية، بل يخضع لأهواء "جروبات واتساب" يديرها سماسرة يتحكمون في مصير الملايين. تأكيد رئيس الشعبة بأن السماسرة يحركون الأسعار بشكل "غير منطقي" ويعلنون أرقاماً جزافية (مثل 50 جنيهاً للكيلو) دون أي سند علمي، يكشف عن غياب تام لدور الدولة الرقابي.

 

أين وزارة التموين؟ وأين جهاز حماية المنافسة؟ وأين الحكومة التي تتشدق ليلاً ونهاراً بضبط الأسواق؟ الحقيقة المرة أن حكومة الانقلاب تركت الميدان خالياً لهؤلاء السماسرة ليعيثوا في الأرض فساداً، مما حول سلعة استراتيجية لا غنى عنها لكل بيت مصري إلى أداة للمضاربة والثراء السريع على حساب دماء المربين وقوت الغلابة. وصف الدكتور عبد العزيز لهذا الوضع بأنه "كلام غير مهني ولا يجوز تركه دون محاسبة" هو توصيف مهذب لكارثة "البلطجة الاقتصادية" التي تجري تحت سمع وبصر النظام.

 

مذبحة المربين: سياسة "التجويع" تطال المنتجين

 

الأخطر في تصريحات رئيس الشعبة هو تسليط الضوء على المأساة التي يعيشها المربي الصغير، الذي يمثل العمود الفقري لهذه الصناعة. فالمربي في مصر محاصر بين مطرقة تكلفة الأعلاف الباهظة (التي يحتكر استيرادها حيتان مقربون من السلطة) وسندان السماسرة الذين يفرضون عليه أسعاراً أقل من التكلفة.

 

وبما أن الدواجن سلعة لا يمكن تخزينها، يجد المربي نفسه مضطراً للبيع بالخسارة، لأن "بقاء الدورة يوماً إضافياً يعني خسارة أكبر أو موتاً للقطيع"، كما أوضح "سيد". هذا الوضع ليس نتاج صدفة، بل هو نتيجة لسياسات حكومية عشوائية لم توفر أي شبكة حماية للمنتج المحلي، ولم تفعل قانون "منع تداول الطيور الحية" بشكل يحمي الصناعة، بل تركت المربي فريسة سهلة للابتزاز، مما يدفعه قسراً للخروج من السوق، مدمراً بذلك مصدر رزق آلاف الأسر في الريف، ومضاعفاً معدلات البطالة التي يحاول النظام إخفاءها بالأرقام الرسمية المزيفة.

 

الهدوء الذي يسبق العاصفة: خدعة انخفاض الأسعار

 

تحاول الأذرع الإعلامية للنظام تسويق الانخفاض الحالي في أسعار الدواجن باعتباره "إنجازاً" حكومياً، لكن رئيس الشعبة نسف هذه الدعاية الكاذبة، مؤكداً أن هذا الانخفاض "وقتي وغير آمن"، بل هو نذير شؤم. إن انخفاض السعر الآن ليس ناتجاً عن وفرة الإنتاج أو انخفاض التكلفة، بل ناتج عن اضطرار المربين للبيع بخسارة والهروب من السوق.

 

التحذير من تكرار سيناريو 2022، عندما خرج 40% من المربين من المنظومة، هو السيناريو المرعب القادم. خروج المنتجين يعني انهيار المعروض مستقبلاً من 1.6 مليار طائر إلى 900 مليون فقط، وهو ما سيؤدي حتماً إلى انفجار الأسعار لتتجاوز الـ 100 جنيه للكيلو وربما أكثر. حينها، لن يجد المواطن - الذي يفرح اليوم برخص السعر - ما يشتريه غداً، وسيتحول البروتين الرخيص الوحيد المتاح للمصريين إلى سلعة ترفيهية للأغنياء فقط، بفضل قصر نظر الحكومة وتخبط سياساتها.

 

إهدار الفرص: من التصدير إلى التسول

 

في الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن الأمن الغذائي، تكشف الأرقام أن مصر تمتلك فرصة لرفع إنتاجها إلى 2.6 مليار طائر وتصدير 600 مليون طائر سنوياً لو تم تطبيق "النظام المغلق" ودعمه من الدولة. لكن بدلاً من أن تتحول مصر إلى مركز إقليمي لتصدير الدواجن، حولتها سياسات الانقلاب إلى دولة مهددة في أمنها الغذائي.

 

غياب الدعم الفني والمالي للتحول إلى العنابر المغلقة، وترك سوق الأعلاف والأدوية البيطرية فريسة لتقلبات الدولار والسوق السوداء، هو ما يعيق هذا التطور. الحكومة تفضل الحلول السهلة: "الاستيراد" الذي يفتح أبواب "العمولات" والصفقات المشبوهة (كما حدث في صفقة الفراخ البرازيلي)، بدلاً من دعم الإنتاج المحلي الذي يبني اقتصاداً حقيقياً.

 

حكومة تصنع الأزمات

 

تصريحات رئيس شعبة الثروة الداجنة ليست مجرد تحذير قطاعي، بل هي جرس إنذار أخير قبل الانهيار الكبير. إن استمرار حكومة الانقلاب في تجاهل هذه الحقائق، وترك السماسرة يديرون دولة بحجم مصر، والاحتفاء بانخفاض أسعار وهمي مبني على خسائر المنتجين، هو وصفة مثالية لكارثة غذائية واجتماعية قادمة.

 

إن الحل الذي يطالب به الخبراء من "تنظيم السوق" و"تطبيق معادلة سعرية عادلة" و"تحجيم السماسرة" هو ألف باء الإدارة، لكنه يبدو مستحيلاً في ظل نظام يعتاش على الفوضى، ويفضل إدارة الأزمات بدلاً من حلها، حتى لو كان الثمن هو تجويع الشعب وخراب بيوت المنتجين.