في مشهد يجسد قمة المأساة الإنسانية التي تعيشها آلاف الأسر المصرية، يظهر شاب فجأة في نيابة أمن الدولة بعد خمس سنوات من "التبخر" التام، فاقداً للذاكرة الاجتماعية، لا يذكر رقماً ولا عنواناً، وكأنه سقط من كوكب آخر.

 

قصة الشاب علي فتحي علي تهامي ليست مجرد واقعة فردية، بل هي "بانوراما" مرعبة لما يحدث خلف أسوار "الجمهورية الجديدة". هنا، في دولة الأجهزة الأمنية، يختفي البشر لسنوات دون أثر، ثم تقذف بهم الأقبية فجأة أمام وكيل النيابة، محطمين ومنعزلين، لتبدأ فصول جديدة من المعاناة.

 

تعليق الأم المكلومة على "فيسبوك": "أنا أمه"، هو صرخة اختزلت وجع خمس سنوات من الانتظار، وفضحت نظاماً يتعامل مع المواطنين كأرقام قابلة للشطب والإعادة حسب "المزاج الأمني" .

 

 

"أنا أمه".. عندما يتحول الفيسبوك لـ "مكتب مفقودين"

 

تفاصيل واقعة علي تهامي تفوق خيال المؤلفين. محامٍ يكتب منشوراً عن "مجهول" ظهر في النيابة، فترد أم في التعليقات لتتعرف على ابنها! هذا المشهد العبثي يعكس انهيار دولة القانون والمؤسسات. أين كانت النيابة العامة طوال 5 سنوات؟ أين وزارة الداخلية التي يفترض أنها مسؤولة عن سلامة المواطنين؟ الحقيقة أن الدولة هي "الخاطف"، وهي التي أخفت "علي" وقطعت خيوط تواصله مع العالم، لدرجة أنه نسي أرقام هواتف أسرته. اضطرار الأهالي للبحث عن أبنائهم عبر "بوستات" المحامين هو إدانة دامغة لنظام حول مصر إلى "ثقب أسود" يبتلع الشباب ويلفظهم "أشباحاً".

 

نمط متكرر: "تدوير" المختفين في دوائر الجحيم

 

ظهور "علي" ليس معجزة فردية، بل هو جزء من "موجة" تكشف عن سياسة ممنهجة. فخلال شهر واحد فقط، وثقت المنظمات الحقوقية (الشبكة المصرية، مركز الشهاب) ظهور حالتين أخريين بنفس السيناريو المرعب: أحمد صلاح عبد الله قرني (32 عاماً)، ومحمد يحيى، كلاهما ظهر في النيابة بعد 5 سنوات من الإنكار الرسمي والاختفاء القسري منذ 2020.

 

هذا التزامن يثير الريبة؛ هل قررت الأجهزة الأمنية "تفريغ" ثلاجات الاختفاء القسري الآن لسبب ما؟ أم أنها مجرد عملية "تدوير" جديدة لنقل الضحايا من "الاختفاء غير الرسمي" إلى "الحبس الاحتياطي الرسمي" الذي لا ينتهي؟ في كلتا الحالتين، نحن أمام جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، تُمارس بدم بارد وبتواطؤ من النيابة التي تحقق مع الضحية بدلاً من التحقيق مع الجلاد الذي أخفاه نصف عقد من الزمان .

 

إنكار الداخلية: "الكذب الرسمي" كأداة حكم

 

طوال سنوات اختفاء هؤلاء الشباب، كانت وزارة الداخلية تمارس هوايتها المفضلة: الإنكار. "لا يوجد لدينا"، "لم نعتقله"، "ابحثوا عنه في مكان آخر". هذه الردود المعلبة التي تتلقاها الأسر والمنظمات الحقوقية، تتهاوى اليوم أمام حقيقة ظهورهم في نيابة أمن الدولة، متهمين في قضايا جديدة!

 

ظهور أحمد صلاح، الذي اعتقله الأمن من سيارته في الفيوم أمام شهود عيان، ثم أنكرت الداخلية وجوده لسنوات، يثبت أن الوزارة تدير "سجوناً سرية" خارج القانون، وأن بياناتها الرسمية لا تساوي الحبر الذي كتبت به. النظام يكذب كما يتنفس، ويستخدم الإخفاء القسري كأداة رعب لكسر إرادة المجتمع، غير عابئ بالقانون والدستور اللذين يمنعان احتجاز أي مواطن دون وجه حق لأكثر من 24 ساعة.

 

الذاكرة المفقودة: ما الذي فعلوه بـ "علي"؟

 

حالة الشاب علي تهامي، الذي خرج لا يتذكر كيفية التواصل مع أهله، تفتح باباً مخيفاً للتساؤل: ما الذي يحدث في تلك السنوات المظلمة؟ أي نوع من التعذيب النفسي والبدني والعزل يتعرض له هؤلاء الشباب لدرجة أن ينسوا أبسط تفاصيل حياتهم؟

 

نحن لا نتحدث فقط عن سلب الحرية، بل عن "تدمير الشخصية" ومحاولة مسح الذاكرة الإنسانية للمعتقل. هؤلاء العائدون يحتاجون إلى تأهيل نفسي طويل لترميم ما حطمه السجان، لكن النظام بدلاً من علاجهم، يزج بهم في السجون الرسمية ليستكملوا رحلة العذاب. إنهم "شهداء أحياء"، قتلهم النظام معنوياً قبل أن يطلق سراح أجسادهم الهزيلة للمحاكمة.

 

خاتمة: جريمة لا تسقط

 

قصص علي وأحمد ومحمد ليست مجرد أخبار عابرة، بل هي وثائق إدانة لنظام السيسي أمام التاريخ وأمام العدالة الدولية. الإخفاء القسري هو "جريمة مستمرة" تبدأ بالخطف ولا تنتهي بالظهور، بل تترك ندوباً لا تمحى في نفوس الضحايا وأسرهم. وفي ظل غياب المحاسبة، سيستمر هذا المسلسل المرعب، وستظل أمهات مصر يبحثن عن فلذات أكبادهن في تعليقات الفيسبوك، في انتظار "معجزة" قد تأتي وقد لا تأتي، في وطن بات فيه "الظهور في النيابة" حلماً أقصى ما يتمناه المفقود.