المشهد الذي يظهر فيه لواء بحري أركان حرب يتحدث بثقة عن “حماية المقدرات الاقتصادية” بينما سجله مليء باتهامات نهب المال العام وإهدار ثروات المصريين، ليس مجرد لقطة عابرة على شبكة اجتماعية، بل مرآة مكثفة لطبيعة منظومة الحكم في مصر خلال العقد الأخير. اللواء الهارب محمد يوسف، الذي شغل مناصب حساسة في القوات المسلحة ثم في قطاع النقل البحري والبري، يقدم نفسه اليوم كصوت حريص على الاقتصاد الوطني، رغم أنه متهم رسميًا في قضية أموال عامة كبرى حُكم عليه فيها غيابيًا بالسجن عشر سنوات، بعد أن فرّ خارج البلاد وترك وراءه ملفًا ثقيلاً من البلاغات والاتهامات.
وفق المعطيات المتداولة في الأوراق الرسمية ورقم القضية المشار إليه، فإن يوسف لم يكن مجرد مسؤول عادي في شركة حكومية، بل رئيسًا للشركة القابضة للنقل البحري والبري، وهي إحدى أهم بوابات التحكم في الموانئ والتجارة البحرية والبرية في البلاد. من هذا الموقع، تتهمه بلاغات مقدمة إلى جهات التحقيق بأنه أفشى أسرارًا عسكرية واقتصادية حساسة لدولة أجنبية، تتعلق بقطاع النقل البحري والموانئ، وسهّل لها السيطرة على مفاصل حيوية في هذا القطاع، بما يمس أمن مصر الاقتصادي والسيادي. الأخطر أن هذه الاتهامات المتعلقة بـ“تمكين” طرف خارجي من الموانئ، لم تواجه بجدية سياسية أو قضائية آنذاك، بل جرى ترك الأمور حتى تفاقمت.
قائمة الاتهامات لا تتوقف عند حد الإفشاء والتفريط في أسرار وقطاعات حساسة؛ فالرجل متهم كذلك بعقد صفقات بالأمر المباشر مع مجموعة استثمارية “خليجية مصرية” على نحو يخالف القواعد القانونية والرقابية، وبطريقة حققت لهذه المجموعة أرباحًا بالملايين على حساب المال العام. هذا النوع من التربيح ليس مجرد مخالفة إدارية، بل نموذج لما يمكن أن يسمى “خصخصة مقنعة” لجزء من القطاع العام لصالح شبكة مصالح محددة، ومن خلال توقيعات مسؤول يمتلك سلطة القرار بلا مساءلة حقيقية.
واحدة من أبرز الوقائع المذكورة في ملفه هي بيع أرض سموحة في الإسكندرية أمام مديرية الأمن الجديدة، بسعر وبشروط وُصفت بأنها مجحفة بحق الشركة القابضة، وتسببت وفق التقديرات في إهدار ما يزيد على 90 مليون جنيه من المال العام. هذه العملية تكشف بوضوح كيف تتحول أصول الدولة إلى غنيمة في يد مسؤول واحد، يقرر مصيرها في مكتب مغلق، من دون شفافية أو مناقصات حقيقية أو رقابة من برلمان مستقل أو إعلام حر.
إلى جانب ذلك، تُنسب إليه وقائع استخدام فواتير شخصية ومنزلية على حساب الشركة بما تخطى 13 مليون جنيه في عام واحد فقط، في مشهد يعبّر عن منطق “اعتبار الدولة ملكية خاصة” وليست أمانة عامة. كما تتحدث الاتهامات عن تعيين أقارب ومعارف في مواقع حساسة داخل الشركة، ثم التعاون معهم لاختلاس عشرات الملايين، بما يرقى إلى شبكة فساد منظمة وليست مجرد تصرفات فردية.
ملف السيارات الفاخرة يضيف بعدًا رمزيًا لهذه الصورة؛ إذ تشير الوقائع إلى شرائه سيارات مرسيدس بملايين الجنيهات بحجة “استقبال كبار الضيوف”، بينما تم جلبها من الخارج رغم توافرها في السوق المحلي، مع إجراء تعديلات أفقدتها الضمان، ثم استخدامها بشكل شخصي له ولأبنائه، بل وتكرار نفس النمط لتوفير سيارات لمسؤولين وأصدقاء قام بتعيينهم. هنا يصبح شعار “حماية المقدرات” مجرد غطاء لغزوة منظمة على مقدرات الدولة لصالح دائرة ضيقة من المنتفعين.
المفارقة الكبرى أن كل هذه البلاغات، بحسب ما هو متداول، قُدمت إلى المجلس العسكري والجهات المختصة قبل هروب الرجل، ومع ذلك لم يشهد الملف موقفًا سياسيًا حاسمًا أو محاسبة مبكرة، بل جرى ـ على العكس ـ منحه موقعًا أعلى كـ“وزير مفوض على قطاع الأعمال العام”. هذا الترقّي رغم تراكم الشبهات، يعكس خللًا بنيويًا في منظومة الحكم، حيث تصبح معايير الولاء للشبكة العسكرية–الاقتصادية أهم من معايير النزاهة والكفاءة، ويُكافأ من يثبت ولاؤه بمنصب أكبر حتى لو كان محاطًا باتهامات ثقيلة.
حين انفجرت القضية ووصلت إلى حكم غيابي بالسجن عشر سنوات فقط في 2024، كان اللواء قد غادر البلاد بالفعل، ليصبح “جنرالاً هاربًا” ومطلوبًا أمنيًا وملاحقًا ـ نظريًا ـ عبر الإنتربول. لكن جوهر الفضيحة لا يكمن فقط في هروبه، بل في أن النظام الذي يزعم “عدم التسامح مع الفساد” هو نفسه من وفّر له الغطاء السياسي والوقت الكافي لمغادرة المشهد، ثم يكتفي اليوم بعقوبة غيابية لا تعيد الأموال ولا تُصلح ما تم تدميره.
في هذا السياق، يصبح ظهوره في فيديو يتحدث فيه عن “حماية المقدرات الاقتصادية” استفزازًا مضاعفًا. فهو من ناحية محاولة لتلميع صورة شخصية غارقة في ملفات نهب المال العام، ومن ناحية أخرى دليل على أن خطاب “حماية الاقتصاد” يُستخدم في مصر كثيرًا لتبرير توسّع العسكر في إدارة الشركات والموانئ والقطاعات المدنية، بينما الواقع مليء بقضايا إهدار وتربّح واختلاسات. اللواء الهارب ليس استثناءً فرديًا، بل رأس جبل جليد يُخفي تحته شبكة واسعة من المسؤولين الذين يتحركون في منطقة رمادية بين القمع الأمني والفساد المالي.
هذه الحالة تكشف أيضًا كيف يجري استخدام القضاء كأداة متأخرة لإدارة السمعة أكثر من كونه أداة فورية لتحقيق العدالة. فبعد أن تُستنزف الأصول وتُنهب الأموال وتُرتب شبكات المصالح ويتمكّن المتهم من الهروب، يصدر الحكم الغيابي ليُقال للناس: “لقد عاقبناه”، بينما لم تُسترد أموال، ولم تُبن منظومة شفافية، ولم تُفتح ملفات أوسع لمسؤولين آخرين ربما شاركوا أو تغاضوا أو استفادوا من شبكة الفساد.
واخير فان قصة اللواء محمد يوسف، من مناصب بحرية حساسة إلى إدارة شركة نقل عملاقة، ومن ثم وزير مفوض في قطاع الأعمال، قبل أن يصبح هاربًا محكومًا عليه في قضية أموال عامة، تلخّص جوهر منظومة حكم ترى في الاقتصاد غنيمة وفي الدولة شركة مغلقة يديرها الجنرالات. ظهور الرجل اليوم وهو يتحدث عن “حماية المقدرات الاقتصادية” ليس سوى مشهد ساخر من مسرح طويل عنوانه: من ينهب البلد يتصدر المشهد واعظًا، ومن يدفع الثمن هو المواطن الذي يقال له كل يوم: “اصبر… تحيا مصر ثلاث مرات”.

