أعلنت الحكومة المصرية عن خطة لرفع الحد الأدنى للمعاشات إلى 1755 جنيهاً بدلاً من 1495 جنيهاً بدءًا من يناير 2026، مع رفع الحد الأقصى للمعاشات وصولاً إلى 16700 جنيه للأجر التأميني. وفي الوقت الذي تحاول فيه أبواق النظام تصوير الخطوة كإنجاز تاريخي، يتجاهل الإعلام الرسمي عن عمد واقع أصحاب المعاشات اليومي وأبعاد الأزمة الاقتصادية التي يعيشها ملايين المصريين من كبار السن وأضعف الفئات دخلاً.
فعلى الرغم من الزيادة الطفيفة، يبقى غلاء الأسعار والتضخم وانهيار القوة الشرائية للجنيه أكبر بكثير من قدرة أي زيادة رسمية على إنقاذ الفقراء من الموت البطيء. أصحاب المعاشات، الذين أفنوا أعمارهم في الخدمة والعمل، أصبحوا في مواجهة يومية مع العجز: الحد الأدنى بعد الزيادة بالكاد يغطي نفقات الإيجار أو جزء يسير من العلاج أو الحد الأدنى من الطعام، في حين أن ارتفاع أسعار الأدوية والكهرباء والمواصلات والمياه والإيجارات فاقم أزمة الأسر التي تعتمد على معشاتهم بشكل كلي أو جزئي.
ليس هناك أي مقاربة بين ما تقدمه الدولة كزيادة وبين الاحتياجات الفعلية لأصحاب المعاشات. فالدولة ترفع الحد الأدنى بقيمة لا تكفي إلا لسد فجوة متراكمة خلفها الغلاء المتسارع، بينما تجاهلت كل المؤشرات التي تثبت أن الحد الأدنى المطلوب للمعيشة الكريمة في مصر اليوم يتجاوز بكثير هذه الأرقام، خصوصاً في ظل مضاعفة أسعار الغذاء والأسعار الحيوية مثل لبن الأطفال والزيت والأرز والسكر والأدوية. ويظل السؤال: هل يستطيع أي متقاعد اليوم أن يعيش كريماً بمعاش 1755 جنيهاً شهرياً فقط؟ الواقع يشير إلى أن الزيادة شحيحة جداً ولا علاقة لها باحتياجات المواطن الحقيقية.
تسعى الحكومة من خلال هذا القرار لإعطاء صورة تضامن اجتماعي وخطاب حماية للفئات الأكثر هشاشة. ومع ذلك، فهي تغض البصر عن سياسات الغلاء التي تطلقها في كل القطاعات، وتدور في نفس الحلقة الجهنمية: زيادة محدودة في معاشات الفقراء يقابلها انفلات في أسعار الخدمات الأساسية والسلع المدعمة. بدل أن توفر الدولة شبكة أمان حقيقية عبر معاشات محترمة، تلجأ منذ سنوات إلى حلول غير جذرية تشبه المسكنات وتترك المرض ينتشر.
الأخطر أن منظومة المعاشات والإعانات الاجتماعية في مصر ما زالت غير قادرة على الوفاء بدورها الرئيسي في حماية كبار السن من الجوع أو المرض. هناك قطاع واسع يعيش تحت خط الفقر ويعجز عن شراء الدواء أو علاج أبسط أزمة صحية، ويضطر كثيرون للاعتماد على الصدقات أو المساعدات العائلية. على الجانب الآخر، تتباهى الحكومة وخطابها الرسمي بأنها تواكب التضخم بالزيادة السنوية، مع أن كل زيادة تُبتلع أمام الارتفاع الجنوني للأسعار عقب كل قرار حكومي برفع الدعم أو زيادة أسعار الخدمات.
مشكلة منظومة المعاشات لا تتوقف فقط عند ضعف المعاش، بل تشمل كذلك منظومة قانونية بيروقراطية تعقّد وصول المستحقين إلى زيادة عادلة، كما تستثني فئات واسعة ممن دفعوا سنوات من أعمارهم دون أن يكونوا ضمن القطاع الرسمي أو من العمالة غير المنتظمة. وبهذا، يجد ملايين المصريين أنفسهم بلا حماية حقيقية عند التقاعد، فيما تنتقل الثروة لصالح أذرع الدولة ومصالح رجال الأعمال والشركات الكبرى.
ما تسوقه الحكومة كنصر اجتماعي هو في الحقيقة التفاف على حقيقة أن الدولة في مصر لا تزال تمارس سياسات طاردة للفقراء من المنظومة الاقتصادية الطبيعية. لا يعقل أن يخرج أي مسؤول ليعلن بفخر عن رفع الحد الأدنى للمعاشات بهذا الرقم الهزيل، في حين يُترك أصحاب المعاشات للنزيف اليومي أمام الصيدليات والطوابير والمؤسسات الخيرية، ويجبرون على مد أيديهم من أجل أبسط الحاجات الآدمية.
لقد أصبحت حياة المتقاعدين في مصر عنوانًا للقتل البطيء، حيث تتحول قرارات الدولة إلى هروب للأمام بدلاً من مواجهة الأزمات الحقيقية بسياسات عادلة ورؤية اقتصادية تضع الفقراء في أول قائمة الأولويات. المطلوب ليس مجرد زيادة أرقام على الورق، بل إصلاح اجتماعي يعترف بالكرامة الإنسانية ويربط قيمة المعاشات الحقيقية بالتكلفة الفعلية للمعيشة.
وأخيرا فإن ، رفع المعاشات لا يوقف الموت البطيء، بل يكشف عن عجز دولة تعتبر حياة كبار السن أقل من أن تخصّص لها سياسات عادلة وجريئة. وسيظل ملايين المصريين تحت رحمة الجوع والبرد والمرض طالما ظلت الحكومة تتعامل مع أزمة المعاشات كرقم تجميلي لا غير.

