في مشهد يختزل مأساة الوطن، ويكشف عن حقيقة النظام الحاكم دون مواربة، يمكن القول بكل حسم وثقة: لا يوجد في مصر نظام. هي عصابة وبلد سايبة، دولة تلاشت فيها كل معالم المؤسسية، وتحولت الحكومة إلى مجموعة من الجزر المنعزلة يحكمها أصحاب النفوذ والحظوة والسلاح. الفوضى لم تعد استثناءً طارئاً، بل أصبحت النظام السائد، وغياب الرقابة الحقيقية لم يعد خللاً مؤقتاً، بل تحول إلى سياسة مقصودة ترعاها السلطة، حيث تلاشت ملامح الدولة المؤسسية التي يحكمها القانون ويخضع فيها الجميع للمساءلة، لصالح نفوذ الأقوياء وأصحاب الحظوة الذين يرون أنفسهم فوق القانون وفوق المحاسبة
حماة القانون يكسرونه: تناقض السلطات في قفص الاتهام
تتجلى الكارثة الكبرى، والمفارقة الأشد ألماً على الضمير الوطني، في أن المؤسسات المنوط بها ضبط الإيقاع المجتمعي، والمكلفة بحماية الأمن والنظام العام، هي نفسها من تعبث به وتنتهكه. فالمفارقة الصادمة التي باتت تتكرر يومياً، في مشاهد موثقة بالصوت والصورة، هي أن السلطة التشريعية التي تضع القانون والشرطة المكلفة بالحفاظ عليه هم أول من يخالف القانون، ضاربين بعرض الحائط كل القواعد والمعايير التي يُفترض أنهم أقسموا على احترامها وتطبيقها على المواطنين
إن هذا الانقلاب في الأدوار، حيث يتحول "الحارس" إلى "لص"، و"القاضي" إلى "متهم"، يكشف عن أننا لسنا أمام حالات فردية شاذة، بل أمام بنية فاسدة متكاملة، تحمي نفسها بنفسها، وتمنح أفرادها حصانة مطلقة من المساءلة، في تجسيد فج لمقولة "الدولة العميقة" التي لا تخضع لقانون ولا تعترف بسلطة عليها.
سمالوط: عندما يتوحد النفوذ السياسي مع القوة الأمنية
كتطبيق عملي صارخ لهذا الانفلات المؤسسي، وكوثيقة إدانة حية لما آلت إليه البلاد، برزت واقعة محافظة المنيا التي هزت ما تبقى من ثقة المواطنين في العدالة.
بطل هذه الواقعة هو نقيب شرطة اسمه عمرو محمد نشأت العُمدة فاز والده بمقعد مجلس النواب في سمالوط بمحافظة المنيا، عن حزب "مستقبل وطن" الموالي للسلطة، حيث استغل الضابط صفته الأمنية، واستند إلى حصانة والده السياسية الجديدة، ليمارس استعراضاً صارخاً للقوة يتجاوز كل الخطوط الحمراء ويسخر من القانون.
هذه الواقعة ليست مجرد سلوك فردي منحرف يمكن إدانته وتجاوزه، بل هي تعبير عميق عن طبيعة النظام الحاكم في مصر، حيث تتحالف السلطة التشريعية (الأب البرلماني) مع السلطة التنفيذية (الابن الضابط) لتشكيل "إمبراطورية صغيرة" داخل الدولة، لها قوانينها الخاصة، ولها أدواتها القمعية، ولها حصانتها المطلقة. إنها عودة إلى عصور الإقطاع، حيث كان "العمدة" يملك الأرض ومن عليها، وحيث لا صوت يعلو فوق صوت السلاح.
سلاح آلي في احتفال مجرم: استعراض القوة فوق القانون
في مشهد يوثق غياب المحاسبة بشكل فاضح، ويؤكد أن الاستهتار بالقانون بات ثقافة رسمية، لم يكتف الضابط بكونه رجل قانون يُفترض أنه يحمي الأمن العام، بل فاحتفل بحيازة واستخدام سلاح آلي دون سند أو تصريح، في سلوك يُعد جريمة جنائية بموجب قوانين السلاح والذخيرة، حيث ظهر في الفيديو المتداول وهو يطلق الأعيرة النارية من سلاح رشاش في الهواء، وسط حشد من الأنصار المحتفلين بفوز والده النائب، موثقاً جريمته في فيديو متداول على نطاق واسع.
الرابط الموثق للفيديو: https://x.com/i/status/1995138413310423518
الدلالات الأعمق: منظومة الحماية المتبادلة
إن استخدام سلاح آلي في احتفال عام، وإطلاق النار في الهواء بهذه الطريقة العشوائية التي تهدد أرواح المواطنين، يُعد مخالفة جسيمة لقانون هيئة الشرطة رقم 109 لسنة 1971، الذي يحظر على الضابط "أن يخالف إجراءات الأمن الخاص والعام" وأن "يتجاوز في استعمال سلطته بإساءة معاملة المواطنين". كما أنه يخالف قانون الأسلحة والذخائر الذي يجرّم حيازة واستخدام الأسلحة الآلية خارج نطاق العمل الرسمي ودون تصاريح قانونية صارمة.
لكن الأخطر من الجريمة نفسها هو الجرأة في توثيقها ونشرها، وهو ما يكشف عن شعور عميق بالحصانة من العقاب. فالضابط يعلم جيداً أن والده البرلماني، وحزبه الموالي للسلطة، ووظيفته الأمنية، تشكل معاً درعاً فولاذياً يحميه من أي مساءلة جدية. وهذا هو جوهر الأزمة: ليست المشكلة في وجود أفراد فاسدين، بل في وجود منظومة كاملة تحمي الفساد وترعاه وتمنحه الحصانة.
البرلمان المصري: غطاء سياسي للنفوذ العائلي
لقد تحول مجلس النواب المصري، في السنوات الأخيرة، من سلطة رقابية تشريعية تمثل إرادة الشعب وتحاسب السلطة التنفيذية، إلى "نادٍ للمحاسيب" يضم رجال الأعمال، والعُمد التقليديين، والضباط السابقين، وأصحاب النفوذ المحلي، الذين يرون في العضوية البرلمانية وسيلة لحماية مصالحهم، وتوسيع نفوذهم، وضمان الإفلات من المساءلة.
فوز "محمد نشأت العمدة" بمقعد البرلمان عن دائرة سمالوط، لم يكن – في نظر عائلته – تكليفاً بخدمة الناخبين وتمثيل مطالبهم، بل كان "غنيمة" استحقت إطلاق الرصاص ابتهاجاً، لأنها تعني أن العائلة باتت تملك "الذراع السياسية" (الأب النائب) و"الذراع الأمنية" (الابن الضابط)، وهو تحالف يضمن السيطرة الكاملة على المنطقة، ويمنح العائلة نفوذاً لا حدود له.
غياب المحليات: الفراغ الذي ملأه العُمد الجدد
تزامن هذا الاحتفال "المسلح" مع استمرار تعطيل انتخابات المجالس المحلية في مصر منذ أكثر من 14 عاماً، رغم أنها استحقاق دستوري واضح. هذا التعطيل المتعمد ترك فراغاً إدارياً ورقابياً هائلاً على مستوى المحافظات والمراكز والقرى، وهو فراغ ملأه "العُمد الجدد" من أصحاب النفوذ العائلي والمالي، الذين أصبحوا يتصرفون كـ"أمراء إقطاع" لا يخضعون لرقابة شعبية حقيقية.
هذا الواقع حوّل نواب البرلمان إلى "مقاولي خدمات" يتدخلون في أدق تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين (من توصيل المياه إلى رصف الطرق)، بدلاً من التفرغ لدورهم التشريعي والرقابي الأصيل. وهو ما يعزز من نفوذهم المحلي، ويحولهم إلى "عرّابين" لا غنى عنهم في نظر المواطنين، مما يضمن إعادة انتخابهم دورة تلو الأخرى، في دائرة مفرغة من الزبائنية والتبعية.
"مستقبل وطن": الحزب الذي يحتكر السلطة
من اللافت أن "محمد نشأت العمدة" فاز بمقعده البرلماني تحت راية حزب "مستقبل وطن"، الحزب الموالي للسلطة والذي يهيمن على الأغلبية الساحقة من مقاعد البرلمان، في ظل غياب أي منافسة حقيقية أو تعددية سياسية فعلية.
هذا الحزب، الذي يُنظر إليه على أنه أداة السلطة التنفيذية داخل البرلمان، يضم في صفوفه أعداداً كبيرة من رجال الأعمال والعُمد وأصحاب النفوذ المحلي، الذين يستخدمون العضوية البرلمانية كغطاء سياسي لممارساتهم
إن احتفال ابن النائب بهذه الطريقة العلنية الاستفزازية، دون أن تتخذ السلطات أي إجراء جدي ضده، يؤكد أن الحزب الحاكم وأعضاءه يتمتعون بحصانة فعلية تتجاوز الحصانة البرلمانية الدستورية، وأنهم يعتبرون أنفسهم فوق القانون، بل إنهم "هم" القانون.
الشرطة: من حامي القانون إلى أداة للنفوذ
المأساة الأكبر تكمن في أن بطل هذه الواقعة ليس مجرد شاب متهور من عائلة نافذة، بل هو ضابط شرطة، أي أنه ينتمي إلى المؤسسة المكلفة دستورياً وقانونياً بحماية الأمن العام وتطبيق القانون.
وهنا يكمن التناقض الأكثر فجاجة: كيف لمن يُفترض أنه يحارب حيازة السلاح غير المرخص، ويلاحق مطلقي الأعيرة النارية في الأفراح والمناسبات، أن يكون هو نفسه من يمارس هذا الفعل المجرّم؟
هذا السلوك يعكس تحولاً خطيراً في وظيفة الشرطة من "خدمة الشعب" إلى "خدمة السلطة وحاشيتها". فالقانون لم يعد يُطبّق على الجميع بالتساوي، بل أصبح أداة انتقائية: صارمة ضد البسطاء والمعارضين، متساهلة بل متواطئة مع الموالين وأصحاب النفوذ.
الصمت الرسمي: إقرار ضمني بالإفلات من العقاب
رغم انتشار الفيديو على نطاق واسع، وتوثيق المنظمات الحقوقية للواقعة، لم تصدر أي بيانات رسمية من وزارة الداخلية أو النيابة العامة تعلن فتح تحقيق جدي أو اتخاذ إجراءات قانونية ضد الضابط المخالف.
هذا الصمت الرسمي المريب ليس مفاجئاً، فهو يعكس السياسة المعتادة في التعامل مع "فضائح الموالين": التجاهل الإعلامي، وانتظار أن تنسى الناس، وفي أحسن الأحوال إجراء "تحقيق إداري صوري" ينتهي بعقوبة رمزية أو تنتهي ملفاته "ضد مجهول".
هذا الصمت هو رسالة واضحة للمواطنين: إذا كنت موالياً للسلطة، فأنت محمي مهما فعلت. وإذا كنت معارضاً أو حتى محايداً، فأنت مستهدف مهما كنت بريئاً. إنها رسالة تدمر ما تبقى من ثقة الناس في العدالة، وتغرس في نفوسهم الشعور بأن "القانون للضعفاء فقط".
وأخيرا جمهورية بلا قانون
واقعة النقيب "عمرو محمد نشأت العمدة" في سمالوط ليست حدثاً عابراً يمكن إدراجه في خانة "الأخطاء الفردية"، بل هي نموذج مصغّر للمنظومة الحاكمة في مصر اليوم. إنها تكثيف لحالة الانهيار المؤسسي الشامل، حيث تتحالف السلطة التشريعية مع التنفيذية لحماية الفساد، وحيث يتحول حامي القانون إلى أول من ينتهكه، وحيث يُدار الوطن بمنطق "العصابة" التي تحمي أفرادها وتفترس خصومها.
عندما يصبح البرلماني "غطاءً سياسياً" للبلطجة، والضابط "ذراعاً مسلحة" للنفوذ العائلي، والقانون "أداة انتقائية" تُستخدم ضد الضعفاء وتُعطّل أمام الأقوياء، فإننا لا نكون أمام أزمة سياسية أو أمنية فحسب، بل أمام خطر وجودي يهدد بانهيار ما تبقى من كيان الدولة المصرية ككل.
إن استمرار هذا النهج، حيث يسود منطق "القوة" بدلاً من "قوة القانون"، وحيث تُمنح الحصانة لمن يملكون السلاح والنفوذ، لا يبشر إلا بمزيد من التفكك الاجتماعي، والاحتقان الشعبي، والانهيار المؤسسي. وهو يؤكد حقيقة مرّة: أن الإصلاح في ظل هذه المنظومة الفاسدة مستحيل، لأن الفساد ليس خللاً عارضاً يمكن إصلاحه، بل هو جوهر النظام وآلية بقائه الوحيدة.

