انفجرت أزمة الأسمدة من جديد لتكشف عري السياسات الزراعية تحت حكم قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي: شُح في الجمعيات، قفزات فلكية في الأسعار، واتساع سوق سوداء تُلقي بالفلاحين إلى هاوية الديون وتراجع الإنتاج، بينما تتباهى الحكومة بالأرقام القياسية للصادرات وتغلق عينيها عن الحقول العطشى. ما يحدث ليس “اختلالات مؤقتة”، بل تعطيش متعمّد للسوق المحلي، وخصخصة للمنفعة العامة لصالح التصدير والأرباح، على حساب الأمن الغذائي وقوت الناس.
السعر ينفجر والبديل يختفي
وفق شهادات مزارعين ونقابيين ميدانيين، قفزت أسعار الشيكارة في السوق المفتوحة خلال الأسابيع الأخيرة إلى مستويات غير مسبوقة، فيما تصف الجمعيات الزراعية حصتها بأنها “لا تكفي نصف الطلب” وتُسَلَّم على دفعات تؤدي عملياً إلى تأخير التسميد عن مواعيده الحرجة. الفلاح الذي كان يعتمد على السعر المدعوم في الجمعية يجد نفسه مضطراً للشراء من السمسار بأرقام تتجاوز دخله عدة مرات، ثم يحصد محصولاً أقل جودةً لأن التسميد تأخر أو نُفِّذ بكميات أقل. الأخطر أن هذا الفراغ فتح الباب واسعاً أمام الأسمدة المغشوشة، حيث تُباع شيكارة “يوريا” أو “نترات” بأكياس مطابقة شكلاً ومزوّرة مضموناً، فتتلف التربة والمحصول معاً وتضيع مدخرات موسم كامل.
من الجمعية إلى السمسار: مسار إفقار مُخطط
الأهالي يروون نفس المسار: تذهب إلى الجمعية فتُقال لك “الحصة لم تصل” أو “ارجع الأسبوع المقبل”، بينما تُضخ الكميات نفسها إلى تجار وسماسرة يبيعونها بأضعاف السعر. فلاح من المنوفية يصف كيف وصلت شيكارة اليوريا في السوق السوداء إلى حدود تتجاوز طاقته، والنترات والسوبر فوسفات قفزت معها، ما اضطره لتقليص جرعات التسميد وتقليل المساحة المزروعة في الدورة الحالية.
نقابيون في القليوبية يحذرون من أن تراجع وصول الدعم إلى مستحقيه يعطّل مواعيد التسميد، فيُنقص الغلة ويضرب سلة الخضروات والسلع الأساسية لاحقاً، ثم يعود المواطن ليشتري الطماطم والبصل والبطاطس بأضعاف ما كان يدفعه قبل أشهر. المفارقة: الحكومة تقول “ننتج ونصدّر”، لكن الفلاح لا يجد شيكارة واحدة بالسعر العادل في التوقيت المطلوب، ولا آلية شفافة تضمن أن حصة الجمعيات وصلت بالفعل ولم تُهرّب إلى السوق السوداء.
لماذا تتفاقم الأزمة؟ الأسباب على الطاولة
• تعطيش السوق المحلي لصالح التصدير: حين ترتفع الأسعار عالمياً، تُفضِّل الشركات والتجار الخارج على الداخل، فتتقلص الكميات المتاحة في الجمعيات وتُترك فجوة يملؤها السماسرة.
• تسعير الطاقة والغاز للمصانع: رفع أسعار الغاز وانقطاعاته الدورية يرفع تكلفة الإنتاج فوراً، فتنتقل الزيادة بسلاسة من المصنع إلى المزارع، وتتعاظم في السوق السوداء.
• قفزات الوقود والنقل: أي زيادة في السولار أو تكلفة النقل تتحول مباشرة إلى “نولون” يضاف لثمن الشيكارة، ويُستغل إعلامياً لتبرير هوامش أعلى من المنطقي.
• تآكل منظومة الدعم والرقابة: ضعف التتبع الرقمي للكميات، وغياب الإفصاح عن حصص كل محافظة وجمعية، وعدم إعلان أسماء المستحقين على قوائم شفافة، يفتح شهية التسريب.
• تمويل زراعي عاجز: البنك الزراعي لا يوفر جسور سيولة قصيرة الأجل كافية لشراء المستلزمات في ذروة موسمها، فيلجأ الفلاح للدَّين من تاجر المستلزمات بشروط مُهينة.
• سماد مغشوش بلا رادع: حين يختفي البديل الرسمي، تغزو السوق منتجات مغشوشة تُباع في “أكياس شبه أصلية”، وتتكسر الرقابة أمام شبكات لها ظهر ونفوذ محلي.
هذه الحلقة الجهنمية تعني ببساطة: تكلفة الفدان ترتفع، جرعة السماد المثلى تنخفض، جودة المحصول تسوء، والكميات تتراجع، فتقفز أسعار الخضر والأعلاف، ومعها اللحوم والدواجن والبيض والألبان. المواطن يدفع ثمن فشل المنظومة من مرتين: مرة حين تتآكل قدرته الشرائية في السوق، ومرة حين تُبدَّد أمواله العامة في دعم لا يصل لمستحقيه.
حكومة الانقلاب و”الإنجازات الورقية”: صادرات تلمع وحقول تئن
تتفاخر السلطة بأن مصر ضمن كبار مصدري الأسمدة وأن حصيلة صادرات الكيماويات والأسمدة في النصف الأول من 2025 حققت نمواً ملحوظاً، لكن السؤال البديهي: ماذا عن الداخل؟ هل خُصِّصت حصة إلزامية كافية للتوريد المحلي قبل السماح برقم تصديري جديد؟ هل أُلزم المنتجون بتسليم كميات محددة للجمعيات بالسعر المعلن وبجدول زمني مُراقَب رقمياً؟
ما يحدث على الأرض يقول العكس: أولوية مُعلنة للأرقام القابلة للتسويق الإعلامي، فيما تُرحَّل كُلفة هذا “المجد الورقي” إلى ظهر الفلاح، ثم إلى موائد المصريين. من يتحدث مع مزارعي المنيا والبحيرة والدقهلية والشرقية يسمع القصة نفسها: الاشتعال في السعر، شُح في المعروض، تحكّم للسمسار، وفلاح بين المطرقة والسندان؛ إن سمّد بالناقص خسر غلته، وإن اشترى بالسعر الأسود خسر جيبه.

