في خطوة نوعية تعكس الإصرار التركي على تحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعات الدفاعية الثقيلة، افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مصنع "بي إم سي أنقرة" (BMC Ankara) المتخصص في إنتاج الدبابات والمركبات المدرعة من الجيل الجديد. يأتي هذا الافتتاح ليتوج سنوات من البحث والتطوير في مشروع الدبابة الوطنية "ألطاي" ومدرعات "ألطوغ"، معلناً دخول تركيا مرحلة الإنتاج التسلسلي لهذه المنظومات المعقدة التي كانت حكراً على دول قليلة حول العالم.
تفاصيل الافتتاح: شراكة استراتيجية ورسائل سياسية
افتُتح المصنع في العاصمة أنقرة بحضور رفيع المستوى، يتقدمهم الرئيس أردوغان والشيخ سعود بن عبد الرحمن آل ثاني، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدولة لشؤون الدفاع القطري، في دلالة على عمق الشراكة الاستراتيجية بين أنقرة والدوحة.
الشراكة القطرية: يمثل المصنع ثمرة تعاون وثيق بين الجانبين، حيث تمتلك قطر حصة تبلغ 49.9% في شركة BMC عبر "برزان القابضة"، مما يعزز التكامل الدفاعي بين البلدين.
رسالة الاستقلال: أكد أردوغان في كلمته أن الهدف الرئيسي ليس مجرد التصنيع، بل "تحقيق الاستقلال التام" عن الموردين الغربيين، مشيراً إلى أن تركيا تواصل كسر القيود المفروضة عليها في مجال التسلح عبر تطوير بدائل وطنية للمحركات وأنظمة الحماية.
القدرات الإنتاجية: أرقام تعيد رسم التوازن
يقع المصنع الجديد على مساحة مغلقة تبلغ 63 ألف متر مربع، وتم تزويده بأحدث تقنيات التصنيع والاختبار. ووفقاً للبيانات الرسمية، فإن القدرة الإنتاجية الأولية للمصنع ستكون حاسمة في تحديث القوات البرية التركية:
- دبابة ألطاي (Altay): من المخطط إنتاج 8 دبابات شهرياً، ليصل المعدل السنوي نظرياً إلى نحو 96 دبابة. هذا المعدل يضمن استبدال الأسطول القديم بوتيرة متسارعة وتلبية احتياجات الجيش التركي الملحة.
- مدرعة ألطوغ (Altuğ): يستهدف المصنع إنتاج 10 مدرعات شهرياً من طراز ألطوغ 8x8، والتي توصف بأنها "حصن ساحة المعركة" نظراً لقدراتها العالية في المناورة والحماية.
- التوسع المستقبلي: تشير التقديرات إلى قدرة المصنع على إنتاج 120 مركبة 8x8 سنوياً، بالإضافة إلى عدد من المركبات 6x6، مع وجود خطط لزيادة الطاقة الاستيعابية لتلبية طلبات التصدير المحتملة.
"ألطاي" و"ألطوغ": جيل جديد من القوة النارية
لا يقتصر الإنجاز على "الكم" بل يتجاوزه إلى "الكيف"، حيث تمثل المنتجات الجديدة قفزة تكنولوجية هائلة:
1. دبابة ألطاي (Altay New Generation)
توصف بأنها من الجيل الثالث المتقدم (+3rd Generation)، وتم إعادة تصميمها لتتجاوز التحديات التي واجهتها النسخ الأولية (خاصة فيما يتعلق بالمحرك وناقل الحركة).
القوة النارية: مزودة بمدفع رئيسي عيار 120 ملم ونظام تحكم بالنيران متطور مدعوم بالذكاء الاصطناعي لضمان دقة الإصابة أثناء الحركة.
الحماية: تتميز بنظام دروع هجين متطور ونظام "أككور" للحماية النشطة (Active Protection System) القادر على اعتراض الصواريخ والقذائف الموجهة قبل وصولها لجسم الدبابة، وهو تقنية حيوية في حروب المدن الحديثة.
التكامل الرقمي: تعمل ضمن بيئة شبكية تتيح لها تبادل البيانات مع المسيرات والوحدات الأخرى في ساحة المعركة.
2. مدرعة ألطوغ (Altuğ 8x8)
صُممت لتكون منصة قتال متعددة المهام، وليست مجرد ناقلة جنود. تتميز بقدرتها على السير في التضاريس الوعرة ومقاومة الألغام والعبوات الناسفة، مع إمكانية تزويدها بأبراج قتالية آلية بمدافع عيار 35 ملم أو صواريخ مضادة للدروع، مما يجعلها رأس حربة فعال في العمليات البرية.
البعد الاستراتيجي: كسر الحظر وبناء المستقبل
يأتي هذا المصنع في وقت حساس، حيث واجهت تركيا في السنوات الماضية قيوداً غير معلنة من بعض حلفاء الناتو (مثل ألمانيا) على توريد محركات الدبابات ومكوناتها. لذا، يمثل مصنع BMC أنقرة رداً عملياً بامتلاك "المعرفة الكاملة" (Know-how) للتصنيع، بدءاً من الهيكل المدرع وصولاً إلى الأنظمة الإلكترونية المعقدة.
علاوة على ذلك، يضع المصنع تركيا في نادي الدول القليلة المصدرة للدبابات الحديثة، مما يفتح آفاقاً اقتصادية واسعة ويعزز نفوذها الجيوسياسي كشريك أمني موثوق للدول الصديقة، وفي مقدمتها قطر.
وفي النهاية فإنه بافتتاح مصنع "بي إم سي أنقرة"، لا يفتتح أردوغان مجرد منشأة صناعية، بل يدشن مرحلة جديدة من "السيادة الدفاعية". فدبابة ألطاي ومدرعة ألطوغ لم تعودا مجرد مشاريع طموحة على الورق، بل أصبحتا واقعاً حديدياً يتدحرج على الأرض، مؤكداً أن الإرادة السياسية والشراكات الاستراتيجية الذكية قادرة على تحويل التحديات والحصار التقني إلى فرص للريادة والابتكار.

