إعلان وزارة الري فتح مفيض توشكى لاستيعاب زيادات "غير منضبطة" في كميات المياه الواردة من سد النهضة ليس مجرد إجراء فني عابر، بل اعتراف عملي بأن إدارة ملف النيل خرجت من يد الدولة المصرية وانتقلت إلى تحكم أحادي من جانب أديس أبابا، بينما تكتفي السلطة في القاهرة بالبيانات الغاضبة والتصريحات الإنشائية عن "الأمن القومي".

 

البيان الحكومي أقر صراحة بأن إثيوبيا خفضت أولًا التصريف لرفع منسوب البحيرة، ثم أطلقت المياه فجأة بكميات تفوق الحاجة، في سلوك وصفته الوزارة بأنه "غير منضبط" ويفتقر للضوابط الفنية والعلمية في تشغيل سد بهذا الحجم على نهر دولي، لكن ما لم يقله البيان هو أن هذا الانفلات الإثيوبي ما كان ليصل إلى هذه الدرجة لولا تراكم تنازلات نظام الانقلاب خلال عقد كامل.

 

إثيوبيا تعبث بالمجرى.. والقاهرة تدفع الثمن

 

الأرقام التي أعلنتها وزارة الري تكشف نمط تشغيل خطير: تصريف يومي بلغ نحو 485 مليون متر مكعب بعد ما سُمّي بافتتاح السد في 10 سبتمبر، قفز لاحقًا إلى 780 مليون متر مكعب أواخر الشهر نفسه، ما خفّض منسوب البحيرة قرابة متر يعادل نحو ملياري متر مكعب من المياه، قبل أن تعود أديس أبابا لتغلق مفيض الطوارئ فجأة وتخفض التصريف إلى 139–160 مليون متر مكعب فقط، ثم تعود لاحقًا لفتح المفيض وإطلاق نحو 320 مليون متر مكعب يوميًا لعشرة أيام.

 

هذه "المناورة الهيدرولوجية" لم تبقَ حبيسة الدراسات الفنية، بل ترجمت إلى فيضانات غير مسبوقة في السودان بعد فتح بوابات الطوارئ في سد النهضة، وإعلان الإنذار الأحمر في ست ولايات من بينها الخرطوم، مع غمر قرى وأراضٍ زراعية بالكامل، في مشهد يوضح أن إثيوبيا تستخدم السد كأداة ضغط إقليمي بلا أي التزام حقيقي بقواعد عدم الإضرار بدول المصب.

 

ورغم ذلك تكتفي القاهرة بالتنديد بـ"النهج غير المسؤول" وتكرار التحذير من الإدارة الأحادية، بينما يحذر باحثون ودراسات أكاديمية منذ سنوات من أن غياب اتفاق قانوني ملزم على الملء والتشغيل يعني عمليًا منح إثيوبيا قدرة دائمة على تعريض الأمن المائي المصري والسوداني لتقلبات حادة ومخاطر سياسية واقتصادية ممتدة.

 

فتح مفيض توشكى: صمام أمان فني أم شهادة وفاة للسياسة المصرية؟

 

فنيًا، لا خلاف على أن الحفاظ على سلامة السد العالي يفرض تمرير الزيادات المفاجئة إما عبر المجرى الرئيسي للنيل أو من خلال مفيض توشكى، لكن سياسياً يمثل فتح المفيض رسالة هزيمة واضحة: إثيوبيا تتحكم في توقيت وكمية المياه، ومصر تُجبر على تصريف جزء من "كنزها المائي" في الصحراء لحماية منشآتها من قرارات أحادية من upstream.

 

وزارة الري أقرت بأن هذه التطورات أجبرت الدولة على تأجيل استكمال أعمال رفع القدرة التصريفية لقناة ومفيض توشكى ضمن خطة التطوير، في حين ارتفعت في أكتوبر مساحة أراضي طرح النهر المغمورة بالمياه في المنوفية والبحيرة إلى 1261 فدانًا، مع تحذيرات للأهالي بضرورة إخلاء هذه الأراضي "حفاظًا على سلامتهم"، بعدما سمح النظام نفسه لعقود بالتعدي على مجرى النهر ثم عاد اليوم ليلوم الضحايا.

 

السلطة تقدم المشهد كقصة نجاح لـ"الجاهزية الفنية" وقدرة الدولة على امتصاص الصدمات، بينما الحقيقة أن توسيع وتطوير مفيض توشكى يجري على عجل كخط دفاع اضطراري في مواجهة تشغيل منفلت لسد النهضة، بدل أن يكون جزءًا من استراتيجية مائية متكاملة تعظم الاستفادة من كل متر مكعب في بلد يعاني أصلًا عجزًا مائيًا يناهز نصف احتياجاته السنوية.

 

من إعلان المبادئ إلى فيضان النيل: مسؤولية نظام الانقلاب عن تآكل الأمن المائي

 

أغلب الدراسات الجادة عن سد النهضة تُجمِع على أن جوهر الأزمة ليس فقط في حجم السد وسعة تخزينه (نحو 74 مليار متر مكعب)، بل في غياب قواعد ملزمة للتشغيل تضمن عدم تعريض دول المصب لخفض حاد في حصصها أو تقلبات موسمية مدمرة، وهو ما حذرت منه أبحاث سياسية وقانونية منذ 2011 وحتى اليوم.

 

إثيوبيا استغلت حالة الارتباك التي أعقبت ثورة يناير وشرعت في بناء السد من طرف واحد رافضة الاعتراف بالاتفاقيات التاريخية، ثم جاءت كارثة إعلان المبادئ عام 2015 الذي وقّعه النظام الحالي ليمنح أديس أبابا اعترافًا مصريًا رسميًا بالسد و"الاستخدام المنصف والمعقول" دون أن ينتزع منها التزامًا واضحًا بعدم الإضرار أو آلية تحكيم ملزمة عند النزاع.

 

الأخطر أن وزير الري نفسه أقر في مارس 2024 بأن مصر "تأثرت" بالسد لكنها "تعاملت" مع ذلك "بتكلفة ما"، مشيرًا إلى أن إعلان المبادئ ينص على "ثمن يجب أن يُدفع" إذا ثبت الضرر، في خطاب يبدو أقرب لتبرير الفشل منه لاستراتيجية استعادة الحقوق، تمامًا كما يلوّح مسؤولو الوزارة الآن بفكرة "توثيق التصرفات الإثيوبية العشوائية" لاستخدامها لاحقًا، بينما يستمر السلوك الأحادي على الأرض.

 

خطاب تهديد للاستهلاك الداخلي.. بلا أي أوراق ضغط حقيقية

 

خطاب السيسي المسجل في افتتاح "أسبوع القاهرة للمياه" عن أن مصر "لن تقف مكتوفة الأيدي" أمام النهج الإثيوبي، بدا في ضوء التطورات اللاحقة مجرد رسالة للاستهلاك المحلي، خصوصًا بعد أن ردت أديس أبابا برفض قاطع لاتهاماته والتأكيد على "حقها السيادي" في استغلال مواردها، وأن النيل "ليس ملكًا لدولة واحدة"، دون أن يترجم ذلك إلى أي تراجع عملي في سياساتها.

 

تحليل الأزمة من منظور واقعي يوضح أن إثيوبيا تمارس دور "دولة مراجِعة" تسعى لكسر الهيمنة التاريخية المصرية في حوض النيل، بينما فقدت القاهرة معظم أدوات الردع التقليدية، من تفكك تحالفاتها في دول الحوض إلى تآكل مصداقيتها الدولية بفعل سجل داخلي قمعي يجعلها طرفًا ضعيف الحجة حين تتحدث عن "القانون الدولي" و"حقوق الإنسان المائية".

 

حتى التحركات المصرية في شرق إفريقيا عبر الاستثمارات والمشروعات المشتركة، كما ترصد تقارير حديثة، تبدو محاولة متأخرة لتعويض غياب أوراق ضغط حقيقية في ملف النهر نفسه، في وقت يحذر خبراء من أن استمرار غياب اتفاق ملزم سيحوّل سد النهضة إلى أداة ابتزاز دائمة يمكن أن تضرب الزراعة والصناعة والطاقة في مصر على المدى المتوسط والبعيد.