بينما يكتوي المصريون من موجة غلاء جديدة بسبب رفع الدعم وزيادة الأسعار، تنشغل الحكومة بتشييد "معلم سياحي" جديد يحاكي "بيغ بن" في الصحراء، مثيرة تساؤلات حول جدوى الإنفاق في زمن التقشف.
وفي توقيت يضبط فيه ملايين المصريين حياتهم على وقع إجراءات اقتصادية قاسية، اختارت الحكومة المصرية ضبط توقيت العاصمة الإدارية الجديدة عبر مشروع جديد أعلن عنه الفريق كامل الوزير، نائب رئيس الوزراء ووزير الصناعة والنقل، يتمثل في تشييد "ساعة ضخمة" بارتفاع 600 متر، لتكون "معلمًا سياحيًا بارزًا" يُرى من أنحاء العاصمة الإدارية وحتى أطراف القاهرة.
الإعلان الذي جاء مفاجئًا، لم يمر مرور الكرام في الأوساط السياسية والشعبية، بل أعاد الجدل القديم المتجدد حول "فقه الأولويات" في دولة تكافح لسداد أقساط ديونها الخارجية، وتطالب مواطنيها بالتحمل والصبر. فالمفارقة بدت صارخة: حكومة تتحدث بلغة التقشف و"ترشيد الدعم" صباحًا، وتعلن عن مشاريع "أيقونية" بمليارات الجنيهات مساءً.
مفارقة "التقشف" و"الأيقونة"
لم يكن إعلان الوزير عن "الساعة العملاقة" -التي يُراد لها أن تنافس ساعة مكة وتدخل موسوعة "غينيس"- سوى حلقة جديدة في سلسلة مشاريع العاصمة الإدارية التي تثير انقسامًا حادًا. فالكاتب والروائي عمار علي حسن التقط هذا التناقض في تعليقه المقتضب، مستدعيًا الموروث الشعبي المصري: "اللي معاه قرش محيره يجيب حمام ويطيره"، في إشارة دلالية عميقة إلى حالة "الوفرة الانتقائية" التي تبدو عليها ميزانية الدولة حين يتعلق الأمر بالمشاريع الإنشائية الكبرى، مقابل "العجز الدائم" حين يتعلق الأمر ببنود الدعم والخدمات العامة.
وكما قال المثل الشعبي المصري الشهير : "اللي معاه قرش محيره، يجيب حمام ويطيره" pic.twitter.com/WL6SzQ2qZS
— عمار علي حسن Ammar Ali Hassan (@ammaralihassan) November 19, 2025
هذه الرؤية عززتها منصة "صدى مصر"، التي وضعت تصريح الوزير في كفة، وقرارات رفع أسعار الوقود وإلغاء الدعم في الكفة الأخرى، متسائلة: "كيف نقبل زيادة الأعباء على المواطن بحجة الديون، وفي الوقت ذاته نُنفق المليارات على ساعة عملاقة وبرج بـ 3 مليارات دولار؟". التساؤل هنا يتجاوز الجدوى الاقتصادية ليصل إلى "القطيعة الشعورية" بين صانع القرار والشارع، إذ يبدو وكأن الطرفين يعيشان في "عالمين متوازيين" لا يلتقيان.
🔴 السيسي بيفاجئنا بإلغاء الدعم وزيادة أسعار البنزين علشان "ما نزودش الديون"...
— صدى مصر (@sadamisr25) November 20, 2025
في نفس الوقت كامل الوزير بيخطط لبناء ساعة عملاقة في العاصمة الإدارية علشان تكون معلم بارز!
إزاي نقدر نقبل زيادة الأسعار على المواطن بحجة الديون، وفي نفس الوقت بنصرف مليارات على مشاريع زي ساعة عملاقة… pic.twitter.com/PjAff9o6Mw
البحث عن "اللقطة" في زمن الأزمة
الحديث عن الساعة أعاد إلى الأذهان الجدل الذي صاحب بناء "البرج الأيقوني". الصحفي علي بكري طرح تساؤلًا مشروعًا حول ما إذا كانت المشاريع السابقة قد فشلت في تحقيق الجذب السياحي والاستثماري المأمول، مما استدعى البحث عن "أيقونة" جديدة. يقول بكري: "البرج الأيقوني أبو 3 مليار دولار قصر معاهم في إيه؟"، مشيرًا إلى حالة من "الاستسهال" في التعامل مع الموارد العامة، ومحاولة دائمة لصناعة إنجازات بصرية ضخمة قد لا تنعكس بالضرورة على الواقع المعيشي للمواطن.
إمبارح السيسي بيقول إنه غلى البنزين علشان مش عايز الديون تزيد!
— Ali Bakry (@_AliBakry) November 19, 2025
والنهاردة كامل الوزير بيقول إن الحكومة بتعتزم إنشاء ساعة عملاقة زي ساعة جامعة القاهرة علشان تكون معلم بارز في العاصمة الإدارية.
حد يقولي.. البرج الأيقوني أبو 3 مليار دولار قصر معاهم في ايه علشان يصرفوا مليارات جديدة… pic.twitter.com/qJrR5sOrYg
من جانبه، ذهب الدكتور مصطفى جاويش إلى نقد أكثر حدة، معتبرًا أن السعي لدخول موسوعة "غينيس" عبر هذه الإنشاءات يعكس خللًا في الرؤية الاستراتيجية للدولة، واصفًا الأمر بمرارة بأنه يستحق دخول "موسوعة للأغبياء"، في إشارة إلى غياب العقلانية الاقتصادية عن مثل هذه القرارات.
معالى الفريق #كامل_الوزير
— دكتور مصطفى جاويش (@drmgaweesh) November 19, 2025
: المطلوب ساعة ضخمة فى #العاصمة_الإدارية
على غرار الساعة الأمريكية فى برج الساعة
أمام المسجد الحرام فى مكة المكرمة
وارتفاعها 600 متر
بحيث يمكن مشاهدتها من العاصمة المصرية القاهرة
والاستعداد لوضعها فى موسوعة #جينيس للأغبياء pic.twitter.com/1LDqhCZJvW
أولويات غائبة
على الأرض، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا. الناشطة رانيا الخطيب وضعت يدها على جوهر الأزمة: "هل الدولة فقيرة ومأزومة وتستوجب التقشف، أم أنها غنية وقادرة على بناء أكبر المدن والساعات؟". هذا التناقض في الخطاب الرسمي خلق حالة من عدم اليقين لدى المواطن، الذي لم يعد يعرف "من نحن بالضبط؟".
الديون صعبة عشان كدة بيرفعوا الدعم وهنقاسي ونسعى ولا الفلوس كتير عشان كدة هيعملوا اكبر ساعة وأكبر مدينة انتاج إعلامي في العاصمة !!!
— Rania Elkhateeb (@ElkhateebRania) November 18, 2025
ايه الدولتين اللي مش لايقين مع بعض دول ؟؟ احنا مين بالظبط ؟ https://t.co/ty5Rv40E9j
بينما رأى السياسي أحمد لطفي أن المشروع يأتي في سياق "منفصل عن الواقع"، متسائلاً عن المستفيد الحقيقي من هذه الساعة في مدينة لا تزال تبحث عن سكانها، قائلاً: "ساعة إيه وزفت إيه.. هو فيه حد هناك!".
ساعة إيه وزفت إيه.. لمين الساعة هو فيه حد هناك!
— AHMAD LOTFI (@AHMADLO13219562) November 19, 2025
يخرب بيوتكم
ده انتو لو جابين الفلوس من ترابيزة قمار ما تعملوش كده pic.twitter.com/C0np7uKZZJ
في المحصلة، لا يبدو مشروع "الساعة" مجرد هيكل خرساني جديد، بل هو "رمز" لمرحلة سياسية كاملة، تعلي من شأن الحجر على حساب البشر، وتستثمر في "الصورة" أكثر من استثمارها في "المضمون"، تاركة المواطن المصري يضبط ساعته الخاصة على مواعيد سداد الأقساط، بينما تضبط الحكومة ساعتها على توقيت "العاصمة" الذي يسبق الواقع بسنوات ضوئية.

