تشهد غزة حراكًا سياسيًا مكثفًا على المستوى الدولي، وسط محاولات أمريكية لفرض تسوية جديدة تحت مسمى "الاستقرار"، لكنها تحمل في طياتها إعادة رسم خارطة النفوذ داخل القطاع.
وبينما تروّج واشنطن لفكرة نشر قوة دولية وإنشاء مجلس انتقالي لإدارة غزة، تواجه هذه الخطة رفضًا متصاعدًا من روسيا والصين وعدد من الدول العربية، التي تعتبر أن المشروع يُقصي الفلسطينيين من دورهم المركزي في تقرير مصيرهم، ويكرّس هيمنة الاحتلال عبر أدوات جديدة.
في ظل تعثر التوافق داخل مجلس الأمن، يظل الواقع الإنساني في غزة مأساويًا، حيث لم تنجح المبادرات السياسية حتى الآن في وقف الانهيار الكامل، بل يتحول وقف إطلاق النار إلى مجرد هدنة هشة تُخترق يوميًا، دون ضمانات حقيقية لتحقيق سلام دائم أو إعمار فعلي.
مشروع أمريكي لإدارة غزة: مجلس انتقالي وقوة دولية
تسعى الولايات المتحدة حاليًا لتسويق مشروع قرار جديد في مجلس الأمن يمنح تفويضًا أمميًا لتشكيل قوة دولية في غزة تحت شعار "حفظ الاستقرار". ويقترن هذا التوجه بخطة تقترح تشكيل مجلس انتقالي لإدارة القطاع، يكون بمثابة كيان مؤقت يهيّئ لمرحلة ما بعد "حماس"، وفق تعبير مسؤولين أمريكيين.
لكن الخطة الأمريكية، والتي تُعدّ جزءًا من رؤية أوسع قدمها الرئيس دونالد ترامب، لا تزال تواجه انقسامات دولية حادة، لا سيما من روسيا والصين اللتين تريان فيها مشروعًا سياسيًا يفتقر إلى الشرعية الفلسطينية، وقد يؤدي إلى فرض وصاية غير مقبولة على الشعب الفلسطيني.
دول عربية كذلك أعربت عن تحفظها، معتبرة أن المقترح يقلّص من دور القيادة الفلسطينية، ويكرّس منطق إدارة الصراع بدلًا من إنهائه.
تحركات إقليمية حذرة: دعم مشروط للهدنة
في موازاة الجهود الدولية، تتحرك القوى الإقليمية لضمان تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، حيث برز دور قطر وتركيا بشكل واضح.
رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، شدد خلال اتصال مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي على أهمية التزام جميع الأطراف بالاتفاق، وضرورة احترام ترتيبات وقف إطلاق النار كمدخل للحل السياسي.
أما تركيا، فأكدت على ضرورة أن تضمن القوة الدولية المقترحة استمرار الهدنة ودخول المساعدات الإنسانية دون أي تدخلات سياسية أو عراقيل من قبل الاحتلال.
ومع تعثر مشروع "النقاط العشرين"، تحدث جاريد كوشنر، مستشار ترامب، عن وجود خطة بديلة جاهزة يمكن تفعيلها في حال فشل المخطط الحالي، دون أن يكشف عن تفاصيلها، ما أثار مزيدًا من الشكوك حول النوايا الأمريكية.
جثث الأسرى والمساومات الميدانية
على الصعيد الميداني، تتواصل الملفات الحساسة بين المقاومة والاحتلال، خصوصًا ملف أسرى وجثث الجنود الإسرائيليين.
فقد أعلن مكتب رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو تسلّم جثة أسير إسرائيلي من المقاومة، ضمن الاتفاقيات التي تم التوصل إليها سابقًا.
حتى الآن، سلّمت المقاومة 25 جثة من أصل 28، بحسب مصادر رسمية، وتُشير التقديرات إلى أن الجثث الثلاث المتبقية سيتم تسليمها خلال أيام، في إطار اتفاق تبادل غير معلن، تسعى تل أبيب لتوسيعه ليشمل معلومات حول الجنود الأحياء.
لكن رغم هذه المبادرات الجزئية، تبقى الهدنة عرضة للانهيار، مع استمرار خروقات الاحتلال في أكثر من محور، خصوصًا في شرق خانيونس وشمال القطاع.
كارثة إنسانية مستمرة رغم الهدوء العسكري
رغم توقف القصف المكثف، تعيش غزة كارثة إنسانية مزمنة، تعمقها البنية التحتية المدمرة، وغياب أفق حقيقي للإعمار.
فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة “أونروا”، حذر مؤخرًا من أن الأوضاع في غزة "كارثية بكل المقاييس"، مشيرًا إلى أن وقف إطلاق النار لا يعني انتهاء الأزمة، بل على العكس، كشف عن حجم الدمار والمعاناة، حيث يعود آلاف النازحين إلى منازل مدمرة، ويفتشون عن جثث ذويهم تحت الركام.
لازاريني دعا إلى خطة شاملة للسلام الحقيقي، لا تقتصر على التهدئة العسكرية، بل تضمن رفع الحصار وعودة الحياة الطبيعية، محذرًا من أن استمرار الانقسام السياسي والتجاذبات الدولية قد يحول غزة إلى ساحة اختبار دائم للمشاريع الفاشلة.
غزة ليست ورقة تفاوض… بل وطن محاصر
بين مشاريع الوصاية الأمريكية ومساومات الاحتلال، تقف غزة اليوم عند مفترق خطير. فإما أن تتحول إلى كيان تديره قوة دولية تحت يافطة "الاستقرار"، أو أن ينتصر منطق السيادة والعدالة، ويُعاد للشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره، دون ابتزاز سياسي أو عسكري.
الرهان الحقيقي ليس في مجلس انتقالي مؤقت أو خطة سلام ورقية، بل في رفع الحصار، ووقف العدوان، ودعم المصالحة الفلسطينية الداخلية، بعيدًا عن الإملاءات الخارجية والمصالح الإقليمية.

