لم تكن طوسون، تلك الضاحية الصغيرة التابعة لحي المنتزه ثانٍ بمحافظة الإسكندرية، سوى منطقة هادئة يعيش فيها مئات الأسر التي حلمت فقط بمأوى آمن.
لكن منذ صباح الثاني عشر من مايو عام 2008، تحولت حياتهم إلى معركة مفتوحة مع أجهزة الدولة، عنوانها “الحق في الأرض”، وشعارها “العدالة لا تُجزأ”.
من أرض زراعية إلى أرض بور.. قصة بدأت بخطأ رسمي
تعود الأزمة إلى أرض تبلغ مساحتها 42 فدانًا كانت تُستخدم للزراعة، وتعتمد في ريها على ترعة المنتزه، التي قررت الدولة ردمها في إطار خطط تطوير المنطقة، القرار جعل الأرض بورًا بلا مصدر ري، فاضطر الفلاحون إلى تركها بعدما فقدت قيمتها الإنتاجية.
ومع غياب التعويض وغياب البدائل، بدأ الأهالي في بيع أجزاء صغيرة من الأرض لراغبي السكن، الذين بدورهم أقاموا منازلهم وقدّموا طلبات رسمية لتقنين الأوضاع طبقًا للقوانين المنظمة لواضعي اليد.
ولم تتوقف الدولة حينها، بل ساهمت في ترسيخ الوجود القانوني للمنازل بإدخال المرافق العامة – من مياه وكهرباء وصرف صحي – وهو ما جعل السكان يعتقدون أن وضعهم أصبح مستقرًا نهائيًا.
حملة الإزالة الأولى: مايو 2008
في صباح يوم 12 مايو 2008، داهمت قوات الأمن المركزي المنطقة مدعومة بلوادر المحافظة، وبدأت حملة واسعة لهدم المنازل بحجة أن الأرض مملوكة للدولة ومقامة عليها مبانٍ مخالفة.
المشهد كان صادمًا، حاول الأهالي التصدي للجرافات بأجسادهم، لكن الاعتقالات كانت أسرع من أي مقاومة.
ورغم حصول السكان بعد ثلاثة أيام فقط على حكم من محكمة القضاء الإداري بوقف التنفيذ الفوري لقرارات الإزالة، إلا أن المحافظة لم تلتزم، بل استعانت بشركة أمن خاصة يرأسها لواء متقاعد لمنع الأهالي من الاقتراب من أنقاض بيوتهم أو إعادة البناء.
سنوات النضال: 2008 – 2011
لم يستسلم سكان طوسون، فخاضوا معركة قانونية وإنسانية استمرت ثلاث سنوات، نظموا أكثر من ثمانين وقفة احتجاجية، واعتصموا أمام وزارة الزراعة بالدقي أربعة أشهر متواصلة.
مطالبهم كانت بسيطة وواضحة: تقنين أوضاعهم، والسماح لهم بشراء الأرض وفقًا للقانون.
لكن الدولة ظلت متخبطة في قراراتها، فمرة تصدر قرارًا بتخصيص الأرض لنادي الاتحاد السكندري، ومرة أخرى لمستثمر لبناء منتجع سياحي، إلى أن جاءت ثورة يناير ففتحت نافذة أمل.
انفراجة مؤقتة بعد الثورة
بعد ثوره يناير 2011، بدأت الدولة تتلقى طلبات الأهالي لتقنين الأوضاع، وعاش السكان فترة استقرار نسبي امتدت لسنوات، استقروا خلالها وبنوا حياتهم من جديد، معتقدين أن الأزمة انتهت إلى الأبد.
عودة الأزمة: طوسون من جديد في 2025
لكن المفاجأة الكبرى جاءت في عام 2025، حين بدأت أجهزة الدولة حصر المنازل وسكانها تمهيدًا لإزالتها مجددًا، بدعوى إنشاء طريق يربط الطريق الدولي بشاطئ بحر أبو قير.
السكان تساءلوا عن جدوى طريق ينتهي عند البحر، لتنكشف لاحقًا الحقيقة: الطريق يخدم مشروع منتجع سياحي جديد بتمويل خليجي في منطقة أبو قير، وبالتالي، فإن قرار “نزع الملكية للمنفعة العامة” لم يكن سوى غطاء قانوني لمصلحة خاصة، تصب في جيوب فئة محددة من المستثمرين.
التحرك القانوني الجديد
عقد الأهالي اجتماعًا موسعًا مع محاميهم، واتفقوا على تقديم شكاوى رسمية إلى رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء، مع اقتراح مسار بديل للطريق لا يمس منازلهم.
كما التقى وفد منهم وزير النقل الذي وعدهم بإيجاد حل سلمي، ما أشاع أجواء من التفاؤل بين السكان الذين تشبثوا بالأمل في أن تكون هذه المرة مختلفة.
الانتكاسة الثانية.. تكرار القمع
لكن سرعان ما تبدد الأمل، فبعد أيام قليلة تم القبض على عبدالله محمد السيد، المتحدث باسم أهالي طوسون، وأُحيل إلى نيابة أمن الدولة العليا التي قررت حبسه احتياطيًا بتهم “الانضمام إلى جماعة إرهابية وتمويلها”.
الخبر كان صاعقًا للسكان الذين رأوا فيه رسالة واضحة: “الصوت الذي يعترض سيُسكت”.
وفي تطور لاحق، صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 3754 لسنة 2025 بنزع ملكية منازل الأهالي بالكامل، بزعم المنفعة العامة، لتُعاد مأساة 2008 بصيغة جديدة.
من طوسون الأولى إلى طوسون الثانية
يتكرر المشهد نفسه بعد 17 عامًا، في الأولى كانت الذريعة “أرض زراعية مملوكة للدولة”، وفي الثانية “منفعة عامة”.
لكن الحقيقة واحدة: قمع وتهجير لصالح المستثمرين، وتهميش لأصحاب الأرض الحقيقيين.
بين الحالتين تتجسد أزمة أعمق تتعلق بمفهوم العدالة في توزيع الثروة والحق في السكن، وتطرح سؤالًا جوهريًا: “هل ما زالت الدولة تعتبر المواطن شريكًا في التنمية أم مجرد عائق أمام الاستثمارات؟”
الحق في السكن.. قضية تتجاوز طوسون
قضية طوسون ليست استثناءً، بل حلقة في سلسلة طويلة من انتهاكات الحق في السكن بمصر، من جزيرة الوراق إلى مثلث ماسبيرو، حيث يتكرر النمط ذاته: تهجير قسري مغلف بشعارات “التطوير” و”المنفعة العامة”. لكن في كل مرة، يظل صوت الأهالي شاهدًا على أن الكرامة لا تُشترى، والأرض لا تُنتزع إلا من أجل الجميع، لا لمصلحة قلة.

