تحولت مصر في السنوات الأخيرة إلى وجهة رئيسية لشركات الأدوية العالمية لإجراء تجاربها السريرية، حتى احتلت المرتبة الثانية قاريًا بعد جنوب إفريقيا في استضافة هذه الأبحاث.
وبينما تروج حكومة السيسي لهذا التوسع باعتباره إنجازًا يعكس تطور البنية التحتية البحثية وجاذبية مناخ الاستثمار في القطاع الصحي، تكشف تقارير حقوقية، على رأسها تقارير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، عن وجه آخر قاتم لهذه الظاهرة، حيث يتم استغلال فقر المرضى وحاجتهم للعلاج لتحويلهم إلى حقل تجارب للأدوية الجديدة، في انتهاك صارخ لمبدأ "الموافقة المستنيرة" الذي يعد حجر الزاوية في أخلاقيات البحث الطبي.
جاذبية مصر لشركات الأدوية: بنية تحتية على حساب كرامة المريض
تستفيد شركات الأدوية متعددة الجنسيات من عدة عوامل تجعل من مصر بيئة مثالية لأبحاثها. فإلى جانب البنية التحتية الطبية والبحثية المتاحة، يقدم التعداد السكاني الضخم وتنوع الحالات المرضية، بالإضافة إلى انخفاض تكلفة إجراء التجارب مقارنة بالدول الغربية، فرصة ذهبية لهذه الشركات لتقليل نفقاتها وتسريع وتيرة أبحاثها.
وقد عملت الحكومة المصرية وهيئة الدواء على تعزيز هذه الجاذبية، حيث استقبلت هيئة الدواء وفودًا من شركات عالمية كبرى مثل "IQVIA" لوضع خطط توسعية للتجارب السريرية في البلاد. وتتباهى وزارة الصحة بتقليص فترات تسجيل الأدوية، وتفعيل منظومات البحث العلمي، والسعي للحصول على اعترافات دولية، معتبرة ذلك "خطى ثابتة نحو الريادة الإقليمية". لكن هذه الريادة، كما يرى منتقدون، تأتي بثمن باهظ يدفعه المواطن المصري المريض.
استغلال منهجي: حين يصبح العلاج مقابل المشاركة في التجارب
يكمن جوهر الأزمة الأخلاقية في أن النظام الصحي المصري يعاني من قصور كبير، حيث لا يغطي التأمين الصحي سوى نصف السكان، ويعجز ملايين المواطنين عن تحمل تكاليف العلاج للأمراض الخطيرة مثل السرطان والفشل الكلوي. في هذا السياق، تصبح المشاركة في تجربة سريرية هي السبيل الوحيد أمام المريض الفقير للحصول على علاج مجاني، حتى وإن كان هذا العلاج لا يزال في طور التجريب ونتائجه غير معروفة ومخاطره محتملة.
وقد حذرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في تقريرها الصادر بعنوان "أسئلة أخلاقية حول التجارب السريرية على الدواء في مصر" من هذا المناخ الذي "يسهِّل من استغلال المواطنين الأكثر ضعفًا واحتياجًا". فالموافقة التي يوقع عليها المريض في هذه الظروف لا يمكن وصفها بأنها "حرة ومستنيرة"، بل هي موافقة تحت ضغط الحاجة واليأس، مما يفرغ المبدأ الأخلاقي من مضمونه ويحول المريض إلى أداة في معادلة تجارية بحتة.
كما أشار مدير برنامج الحق في الصحة بالمبادرة المصرية، إلى مخاوف إضافية تتعلق بنزاهة المراكز البحثية الخاصة التي بدأت في الظهور، والتي قد تضع الربح المادي فوق سلامة المشاركين.
تشريعات لحماية المريض أم لتقنين الاستغلال؟
أمام الانتقادات المتزايدة، أصدرت الدولة المصرية قانون تنظيم البحوث الطبية الإكلينيكية في أواخر عام 2020، وصدرت لائحته التنفيذية في مارس 2022. ورغم أن الدستور المصري نفسه ينص في المادة 60 على حظر إجراء أي تجربة طبية أو علمية على الإنسان بغير رضاه الحر الموثق ، فإن المشكلة لم تكن في غياب النص القانوني بقدر ما كانت في تفكك التشريعات وعدم كفايتها لحماية المرضى.
وقد رحبت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في حينه بصدور القانون ولائحته، معتبرة إياه خطوة إيجابية وتتويجًا لمقترحات المجتمع المدني. ومع ذلك، يرى نقاد أن القانون، على أهميته، لم يعالج جذور المشكلة. فالإطار القانوني وحده لا يكفي لحماية حقوق المرضى في ظل نظام صحي لا يوفر لهم حقهم الأساسي في العلاج.
تواصل الحكومة الترويج لزيادة عدد التجارب كقصة نجاح، وتتحدث عن إنشاء "مجلس لمراقبة البيانات والسلامة" لضمان سلامة المرضى. ولكن طالما أن المواطن مضطر للاختيار بين الموت البطيء بسبب المرض أو المشاركة في تجربة قد تكون قاتلة، فإن أي حديث عن "حماية الحقوق" و"المعايير الأخلاقية" يظل حبرًا على ورق، ويصبح القانون غطاءً لتقنين وضع غير إنساني قائم على استغلال حاجة المرضى.
عندما يصبح جسد المواطن أصلًا اقتصاديًا
إن احتلال مصر للمركز الثاني أفريقيًا في استضافة التجارب السريرية ليس مؤشرًا على التقدم بقدر ما هو دليل على أزمة عميقة في منظومة الحق في الصحة. فالحكومة المصرية، بسعيها لجذب استثمارات شركات الأدوية، تتجاهل حقيقة أن هذا "النجاح" مبني على تضحية بأكثر فئات المجتمع ضعفًا. إن تحويل أجساد المرضى الفقراء إلى حقول تجارب هو نتيجة حتمية لسياسات صحية واقتصادية تخلت عن مسؤوليتها في توفير العلاج للجميع. وبدون إصلاح جذري للنظام الصحي يضمن لكل مواطن حقه في الحصول على علاج آمن وفعال ومجاني، ستظل التجارب السريرية في مصر فصلاً مؤلمًا من فصول استغلال الإنسان لأخيه الإنسان تحت رعاية الدولة.

