أعاد حادث وفاة المصورين الشابين كيرلس صلاح وماجد هلال في موقع تصوير بمدينة بورسعيد إلى الواجهة من جديد ملف الإهمال المتكرر في أماكن العمل، وغياب الرقابة الحكومية على معايير السلامة المهنية، بعد أن تحولت بيئة العمل في مصر إلى ساحة مفتوحة للمخاطر بسبب غياب المساءلة وضعف التفتيش العمالي.

 

الواقعة التي أثارت غضبًا واسعًا بين العاملين في الوسط الفني والإعلامي، كشفت حجم التراخي المؤسسي والبيروقراطي الذي يسمح بتكرار الحوادث القاتلة دون محاسبة، لتبقى أرواح الشباب ثمناً للإهمال والفساد الإداري.

 

المفوضية المصرية: ما حدث انتهاك جسيم للحق في الحياة

 

أدانت المفوضية المصرية للحقوق والحريات الحادث بأشد العبارات، معتبرةً ما جرى “انتهاكًا جسيمًا للحق في الحياة والسلامة المهنية”، وحمّلت المسؤولية المباشرة للشركة المنفذة وجهات الإشراف الرسمية التي قصّرت في أداء واجبها الرقابي.

 

وأكدت المفوضية أن ما جرى ليس مجرد حادث عرضي، بل نتيجة مباشرة لسياسات الدولة التي تتساهل مع انتهاك قواعد الأمان في مواقع العمل، وتسمح للشركات بممارسة أنشطتها دون رقابة حقيقية أو التزام بالمعايير.

 

تفاصيل الكارثة: ونش غير ثابت ومسؤول أمن غائب

 

بحسب الشهادات التي وثّقتها المفوضية، فإن موقع التصوير شهد مخالفات فادحة لمعايير السلامة المهنية، أبرزها عدم تثبيت الونش أثناء وجود الفريق في الموقع، واستخدام رافعة قديمة متهالكة بإطارات ممزقة، ما أدى إلى انهيارها خلال التصوير وسقوطها على الشابين.

 

الأدهى أن مسؤول الأمن الصناعي غاب عن الموقع يوم الحادث، ورغم ذلك قررت الشركة بدء التصوير، في تجاهل تام لإجراءات الأمان. هذه التفاصيل، التي وثّقتها المفوضية، تكشف خللاً مؤسسياً عميقاً في منظومة السلامة المهنية في مصر، حيث تغيب الرقابة الحكومية تماماً عن مواقع العمل.

 

تقاعس حكومي وتواطؤ إداري

 

اتهمت المفوضية الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة القوى العاملة، بالتقاعس عن أداء دورها في التفتيش والرقابة على أماكن العمل، قائلة إن الوزارة لم تُفعّل آليات التفتيش المنتظمة على مواقع الإنتاج الفني والإعلامي، ما سمح باستمرار بيئة من الفوضى والاستهتار بأرواح العاملين.

 

ويؤكد هذا التقصير أن المشكلة ليست في حادث واحد، بل في منظومة رقابية عاجزة وفاسدة لا تمتلك الإرادة أو الكفاءة لحماية العمال من الإهمال أو الاستغلال، إذ تكتفي غالبًا بتقارير شكلية وبيانات تعزية دون محاسبة حقيقية.

 

محاولات طمس الحقيقة وهروب المسؤولين

 

بحسب البيان، عرضت الشركة المنفذة تعويضًا هزيلاً بقيمة مليون جنيه فقط لأسرتي الضحيتين، في محاولة لإغلاق الملف دون مساءلة حقيقية. كما اختفت نائبة مدير الشركة التي كانت مسؤولة عن التنسيق مع المصورين عقب الحادث، وسط ترجيحات بمغادرتها البلاد، ما أثار شكوكًا حول محاولات للهروب من العدالة وطمس معالم الجريمة المهنية.

 

هذه الوقائع تُظهر غياب سيادة القانون أمام رأس المال، وتواطؤ جهات التنفيذ التي تترك الضحايا وأسرهم فريسة للتهرب والمماطلة، دون تدخل فعلي من الدولة لضمان العدالة أو رد الحقوق.

 

مسؤولية الدولة قبل الشركات

 

ورأت المفوضية أن المسؤولية لا تقع على الشركات وحدها، بل تمتد إلى الحكومة المصرية التي فشلت في وضع نظام فعال لمراقبة السلامة المهنية، محذّرة من استمرار ثقافة “التغطية” بدل المحاسبة.

 

كما طالبت بوقف نشاط الشركة المتورطة مؤقتاً، وإدراج مسؤوليها على قوائم الممنوعين من السفر إلى حين انتهاء التحقيقات، مؤكدة أن العدالة والمساءلة هما السبيل الوحيد لمنع تكرار هذه الكوارث.

 

الإهمال يقتل.. والحكومة صامتة

 

حادث بورسعيد ليس استثناءً، بل هو مرآة تعكس واقعًا مروّعًا لبيئة العمل في مصر، حيث يموت الشباب تحت آلات متهالكة دون رقابة أو محاسبة.

 

تتكرر الكوارث، وتكتفي الدولة ببيانات التعزية، فيما تظل وزارة القوى العاملة والجهات الرقابية عاجزة عن حماية المواطنين.

 

إن استمرار هذا الصمت الرسمي، وغياب الشفافية في التحقيقات، يطرح سؤالًا مؤلمًا: كم من كيرلس وماجد يجب أن يموتوا قبل أن تدرك الحكومة أن الإهمال جريمة لا تسقط بالتقادم؟