في تدوينةٍ مكثّفة نشرها الكاتب الصحفي أنور الهواري على صفحته الرسمية، أثار جدلاً واسعاً حول هوية الأزمة المصرية المعاصرة. لم يُرجِع الهواري أسباب التراجع إلى سؤال الهوية — أهي فرعونية أم عربية أم إسلامية — بل إلى ما وصفه بـ"إجهاض محاولات الحداثة والتقدّم على مدار مائتي عام"، الأمر الذي جعل البلاد — بحسب تعبيره — "ترتد إلى الخلف مملوكية عثمانية، مترهلة ومشوشة عقلياً وروحياً".

 

تدوينة الهواري ليست مجرّد نقدٍ ثقافي، بل صرخة فكرية تدعو المصريين إلى الاختيار بين "وثبة قوية إلى الأمام" أو "مزيدٍ من الانتكاس إلى الخلف".

 

هوية الأزمة ليست هوية الانتماء بل هوية التقدّم

 

يرى أنور الهواري أن جدل الهوية الذي استنزف النخبة والمجتمع لعقود — أهي مصر عربية؟ فرعونية؟ إسلامية؟ متوسطية؟ — هو نقاشٌ زائف يحجب جوهر الأزمة الحقيقية. فالمشكلة، في تقديره، ليست في تحديد الانتماء الحضاري، بل في غياب مشروع التحديث الوطني الذي بدأ منذ عهد محمد علي وتعرض للانتكاس المتكرر بفعل أنظمةٍ متناقضة في الشكل، متشابهة في الجوهر.

 

لقد كانت مصر — وفقاً لطرحه — تمتلك كل مقومات التحوّل إلى دولة حديثة: مؤسسات بيروقراطية فاعلة، طبقة متعلمة، وانفتاح على العلوم والصناعة، لكنّ هذه المسيرة تعثرت مراراً، لتتحول الدولة إلى كيانٍ متخشّب، يفتقد لروح المبادرة والإبداع.

 

الارتداد إلى "مملوكية عثمانية" جديدة

 

الهواري يستخدم تعبيراً لافتاً حين يقول إن مصر "ارتدت إلى الخلف مملوكية عثمانية". وهو توصيفٌ رمزيّ يلمّح إلى أن البنية السياسية والاجتماعية الراهنة — في نظره — استعادت روح الحكم الإقطاعي والولاءات الشخصية، لا روح الدولة الحديثة التي تحكمها المؤسسات والقانون.

 

في "المملوكية العثمانية" التي يتحدث عنها الكاتب، تُختزل السلطة في شخص الحاكم وتدور حوله الطبقة المنتفعة، بينما يغيب مفهوم المواطنة ويحل محله مبدأ التبعية. أما المجتمع، فقد أصابه — كما يقول — "ترهّلٌ وتشوشٌ عقليّ وروحيّ"، إذ انكمش الوعي الجمعي وانسحب الفكر النقدي أمام سطوة الإعلام الموجّه وثقافة الخوف والامتثال.

 

قِيَم السلطة وأخلاق المجتمع.. شراكة في الاضمحلال

 

يضع الهواري المسؤولية على عاتق طرفين: السلطة والمجتمع معاً.

 

فالسلطة، بحسب طرحه، أسهمت في تجريف المجال العام، ومارست الإقصاء بدلاً من المشاركة، فأنتجت جيلاً يعزف عن السياسة ويكتفي بالشعارات. وفي المقابل، فقد المجتمع منظومة القيم التي تدفعه إلى التغيير، واستسلم إلى نمط من اللامبالاة الأخلاقية و"التديّن الشكلي" و"البراغماتية اليومية"، فصار عاجزاً عن مساءلة ذاته أو حكامه.

 

إنها — كما يصفها الكاتب — "حالة بائسة من الاضمحلال المزمن" تتغذّى من الداخل وتُعيد إنتاج نفسها عبر الإعلام والتعليم والدين والاقتصاد.

 

من النهضة إلى الانتكاس: قرنان من الفشل المؤجل

 

حين يقول الهواري إن مصر "أجهضت مائتي عام من محاولات الحداثة"، فهو يشير إلى سلسلة من المحاولات الإصلاحية التي بدأت مع محمد علي باشا، مروراً بعصر التنوير في النصف الأول من القرن العشرين، ثم التجربة الناصرية في التنمية والعدالة الاجتماعية، وصولاً إلى الانفتاح الاقتصادي وما تلاه من فسادٍ بنيويّ.

 

في كل مرحلة، كانت تظهر نُخبٌ تحمل حلم التقدم، لكنها تصطدم بواقعٍ سياسيّ متسلط أو مجتمعيّ تقليديّ، فتنهار المبادرات قبل أن تُثمر. وبذلك، يتكرّر الإجهاض جيلاً بعد جيل، حتى بات التراجع سمة متوارثة، تُخفي خلفها شعارات براقة لا تصمد أمام اختبار الواقع.

 

الاختيار المصيري: وثبة أم انتكاس

 

يختتم الهواري تدوينته بجملةٍ قصيرة لكنها بالغة الدلالة: "علينا أن نختار؛ إما وثبة قوية إلى الأمام، أو مزيد من الانتكاس إلى الخلف."

 

إنها صيحة تحذير أكثر منها خلاصة فكرية. فالمجتمع المصري — كما يراه الكاتب — يقف عند مفترق طرق: إما أن يستعيد مشروعه الحداثي عبر إصلاح شامل في التعليم والعقل السياسي والقيم الاجتماعية، أو يواصل الانحدار في دوامة الماضي، حيث السلطة الأبوية، والعقل الاتكالي، والاقتصاد الريعي، والوعي المزيّف.

 

بين الحنين للماضي واستحقاقات المستقبل

 

في قراءة تدوينة أنور الهواري، يتضح أنه لا يدعو إلى القطيعة مع التراث، بل إلى تحرير الحاضر من عبودية الماضي. فالتاريخ، مهما كان مجيداً، لا يصنع التقدّم ما لم يتحوّل إلى وعيٍ نقديّ ودافعٍ نحو الإصلاح.

 

ورسالته للمجتمع المصري واضحة: إن لم تحدث "الوثبة" — أي القفزة الشجاعة نحو التنوير والعدالة والمعرفة — فسيستمر الانحدار إلى الوراء، حتى تُصبح ملامح "المملوكية العثمانية" أكثر رسوخاً من أي وقتٍ مضى.

 

بهذا المعنى، لا يتحدث الهواري عن أزمةٍ سياسية فحسب، بل عن أزمة وعي وضمير ووجهة، تضع مصر أمام خيارٍ تاريخي لا ثالث له: إمّا أن تنهض، أو أن تواصل السقوط في هوّة الاضمحلال التي رسم ملامحها الكاتب بوضوحٍ مؤلم.