في الوقت الذي تتعاظم فيه أزمات مصر الاقتصادية والاجتماعية، تأتي قصص النجاح الفردية كضوءٍ يخترق عتمة الواقع ليذكّر المصريين بما يمتلكونه من طاقات بشرية مدهشة.
واحدة من أبرز هذه القصص هي قصة الطبيب كريم الموافي، استشاري طب وجراحة العيون، الذي تُوّج مؤخرًا بجائزة "أفضل عملية جراحية في مؤتمر الجمعية الأوروبية لجراحي الساد والجراحة الانكسارية (ESCRS)" في ألمانيا.
الإنجاز الذي يضع اسم مصر على خريطة الطب العالمي لا يخص شخصًا واحدًا فحسب، بل يطرح سؤالًا جوهريًا: لماذا يبرع المصريون عندما يغادرون الوطن، بينما يُحاصَرون في الداخل بالفشل والتهميش وربما الاعتقال؟
إنجاز طبي عالمي: مصري يكتب اسمه في سجل التميز
يُعد مؤتمر ESCRS من أهم المؤتمرات الطبية في العالم، ويشهد منافسة بين آلاف الجراحين والباحثين من شتى القارات.
اختيار عملية الدكتور كريم الموافي كـ"الأفضل عالميًا" لم يأتِ صدفة؛ فالجائزة لا تُمنح للمهارة التقنية فقط، بل للحلول المبتكرة التي تقدّم إضافة علمية ملموسة في علاج الحالات المعقدة.
هذا التقدير الدولي هو بمثابة اعتراف عالمي بالكفاءة المصرية، وإشارة واضحة إلى أن الأطباء المصريين يمتلكون قدرات تضاهي، بل تفوق، أقرانهم في الدول المتقدمة.
التعليم والواقع: مفارقة النجاح رغم القهر
قصة الدكتور الموافي ليست استثناءً، بل نموذجًا متكررًا يعكس ظاهرة تفوق المصريين في الخارج رغم إخفاق بيئتهم المحلية.
وراء هذا التميز ثلاث ركائز أساسية:
- تعليم أكاديمي متين: رغم تدهور أوضاع الجامعات الحكومية، لا تزال كليات الطب المصرية تنتج أطباء يمتلكون قاعدة علمية قوية، تؤهلهم لفهم أعمق وأشمل للعلوم الطبية الأساسية.
- خبرة عملية كثيفة: طبيب الامتياز أو المقيم في مستشفيات مصرية يتعامل مع مئات الحالات يوميًا في ظروف ضاغطة، وهو ما يصقل مهاراته العملية والجراحية بشكل فريد.
- دافع ذاتي للتفوق: في ظل الإحباط العام، يتحول التفوق الشخصي إلى وسيلة للبقاء. الطبيب المصري مدفوعٌ بالرغبة في إثبات ذاته أمام عالمٍ لا يمنحه فرصًا متكافئة.
هذه المعادلة تخلق كفاءات عالية الجودة تلمع في الخارج فور توفر بيئة عمل محترمة، لكنها تُهمَّش في الداخل بسبب سوء الإدارة، ضعف التمويل، وغياب العدالة المهنية.
لماذا يُقدّر في الخارج ويُحارب في الداخل؟
تُظهر تجارب الأطباء المصريين بالخارج أنّ البيئة هي العامل الحاسم.
في أوروبا والخليج وأمريكا، تُقاس الكفاءة بالعلم والإنجاز، لا بالمحسوبية. الطبيب يُكافأ بترقية ودعم بحثي واعتراف مجتمعي.
أما في الداخل، فالتقدير يُستبدل بالبيروقراطية والعقاب. الطبيب الذي يطالب بتحسين الأجور أو تطوير المستشفيات قد يُتهم بالتقصير أو يُحال للتحقيق، بينما يُغلق الباب أمام أي مبادرة إصلاحية جادة.
يقول أطباء مصريون في الخارج إنهم لم يصبحوا عباقرة بعد السفر، بل وجدوا نظامًا يحترم الإنسان ويكافئ الموهبة.
بينما في الداخل، تتآكل الثقة بالنفس تحت وطأة الإهمال، وتتحول الكفاءة إلى عبء على صاحبها في بيئة لا تحتمل النجاح.
الرسالة الأهم: الاستثمار في الإنسان قبل البنيان
إن تتويج الدكتور الموافي بجائزة عالمية يجب أن يُقرأ كتحذير بقدر ما هو مدعاة فخر.
فمصر لا تفتقر إلى العقول، بل إلى منظومة تحميها وتستثمر فيها.
في بلدٍ تتكدس فيه المستشفيات القديمة دون أجهزة كافية، ويُهمل فيها البحث العلمي، تصبح الهجرة هي الوسيلة الوحيدة للنجاة.
فبينما يصفق العالم لإنجاز طبيب مصري في ألمانيا، يُجبر آخرون في الداخل على ترك المهنة أو البحث عن فرصة خارج حدود الوطن.
حين يصبح النجاح جريمة داخل الوطن
نجاح كريم الموافي يؤكد أن المصري قادر على الإبداع متى ما توافرت له بيئة تحترم علمه وتقدّر جهده.
لكنّ السؤال المؤلم يبقى: لماذا لا يجد هذا التقدير في وطنه؟
الجواب يتجاوز الطب إلى بنية الدولة ذاتها، حيث تُكافأ الولاءات لا الكفاءات، ويُحاصر الإبداع بالروتين والخوف.
إن مصر التي تخرّج أفضل الأطباء والعلماء، هي نفسها التي تدفعهم إلى الرحيل، أو إلى الصمت تحت سقفٍ منخفض من التوقعات.
الطريق إلى النهضة لا يمر عبر الأبراج والمتاحف والطرق وحدها، بل عبر استثمار العقول التي تمثل الثروة الحقيقية لأي أمة.
حين تُصبح عبارة "أجود الأطباء في العالم في مصر" واقعًا ملموسًا داخل الوطن، لا تغريدة فخر في الخارج، يمكن حينها القول إن مصر بدأت تُعالج نفسها حقًا.

