زراعة مستقرة تحت التهديد
تعيش قرية أولاد الشيخ بمحافظة المنيا على وقع أزمة متفاقمة تهدد الاستقرار الزراعي والاجتماعي في المنطقة، إثر مطالبة جهاز "مستقبل مصر" بإخلاء الأراضي الزراعية التي يستثمرها الفلاحون منذ سنوات. ورغم أن هذه الأراضي موثّقة عبر "كروت الفلاح"، ومثبتة في سجلات وزارة الزراعة، إلا أن الصراع القائم بين الأهالي والجهاز الحكومي بات عنوانًا لمعضلة أوسع تتعلق بكيفية إدارة ملف الأراضي في مصر: هل هو ملف تنموي؟ أم أداة إعادة هيكلة ملكية تخدم أجندات مركزية؟
أولاً: موقف الفلاحين.. بين القانون والخذلان
يرى فلاحو أولاد الشيخ أنهم ضحايا قرار تعسفي من جهاز "مستقبل مصر"، خاصة أنهم يمتلكون وثائق قانونية، أبرزها كارت الفلاح وعقود انتفاع وشهادات زراعية رسمية تؤكد تعاملهم مع الدولة منذ سنوات.
هؤلاء المواطنون لم يكونوا يوماً من واضعي اليد، بل شاركوا في استصلاح الأراضي القاحلة، وحوّلوها إلى مشروعات مثمرة في إنتاج الزيتون والنخيل، وهو ما يمثل مصدر رزق لعشرات الأسر. وفي فيديوهات وشهادات متداولة، عبّروا عن استيائهم وقلقهم من فقدان أراضيهم، وتحدثوا عن مناشدات متكررة للمحافظ ورئاسة الجمهورية لوقف ما يرونه انتزاعاً غير عادل لحقوقهم.
ثانيًا: رؤية جهاز مستقبل مصر.. مشروعات لا تنتظر
من جانبه، يسعى جهاز "مستقبل مصر" إلى تنفيذ رؤية تنموية تعتمد على توسيع الرقعة الزراعية وتأسيس مناطق صناعية مرتبطة بها، ضمن إطار قومي لتعزيز الأمن الغذائي وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
لكن، بحسب المتضررين، هذه الرؤية تُترجم على الأرض بشكل يصطدم بحقوق الفلاحين السابقين، حيث يتم تجاهل عقودهم وتقارير الزراعة التي تؤكد نشاطهم في الأرض. وهنا يطرح سؤال حاسم: هل تنمية الأرض تستلزم إخلاء من سكنها وزرعها لعقود؟ أم كان يمكن دمجهم ضمن المخطط الجديد دون تهجير أو حرمان؟
ثالثًا: تناقض الخطاب الرسمي وتعدد الجهات
المفارقة أن محافظة المنيا، في تصريحاتها، تؤكد دعم الفلاحين الجادين وتشدد على أن أولوية التقنين قائمة لمن يستوفي الشروط. ومع ذلك، يبدو أن هناك تضاربًا في التوجهات بين الجهاز التنفيذي المحلي وجهاز مستقبل مصر، ما يخلق حالة من الضبابية حول المرجعية القانونية الحاسمة في هذا النزاع.
في الوقت ذاته، تنشط حملات إزالة التعديات على الأراضي الزراعية، لكن لا يُفرّق أحيانًا بين المتعدين والمستفيدين الشرعيين، وهو ما يضع المنظومة التشريعية والتنفيذية أمام اختبار حقيقي للعدالة والشفافية.
رابعًا: أبعاد اقتصادية واجتماعية للصراع
تتجاوز الأزمة بعدها القانوني لتلامس قضايا التنمية الريفية، والحفاظ على الطبقة الزراعية، وتعزيز الاكتفاء الذاتي من المحاصيل. فحين يُجبر مزارع على ترك أرضه التي بناها بعرقه، فإننا أمام هشاشة في الحماية القانونية للمزارعين، وتغليب لكفة الجهاز الإداري على حساب الأمن الغذائي.
كما أن تفكيك منظومة زراعية قائمة سيؤدي إلى بطالة مقنعة، وهجرة معاكسة من الريف إلى المدن، مما يعمّق من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
خامسًا: الحاجة إلى حلول عقلانية شاملة
ما تحتاجه قرية أولاد الشيخ – وغيرها من المناطق التي تواجه نفس المصير – هو إطار حوار شفاف ووساطة حكومية محايدة، تضمن حقوق الفلاحين دون تعطيل لرؤية التنمية. المطلوب:
- إصدار عقود تقنين فورية لكل من يملك إثباتًا قانونيًا.
- إشراك الفلاحين في خطط التنمية الزراعية الجديدة بدلًا من إقصائهم.
- وضع آلية قانونية موحدة للفصل في النزاعات بين المواطنين والأجهزة التنفيذية.
- وقف كل إجراءات الإخلاء حتى انتهاء البت القضائي أو الإداري العادل في القضية.
وأخيرًا فان التنمية لا تعني نزع الحقوق
أزمة أراضي أولاد الشيخ تجسّد أزمة أعمق في إدارة العدالة الزراعية في مصر. فبين حقوق الفلاحين التي طالما دعمتها الدولة، ومطالب الأجهزة التي تتحرك تحت مظلة التنمية السريعة، تقف مئات الأسر على حافة الفقد.
إن أي مشروع تنموي لا يراعي العدالة الاجتماعية سيولّد مقاومة واحتقاناً بدلًا من المشاركة. وعلى الدولة أن تبرهن أنها تقف بجوار "الفلاح الجاد" كما تعلن، لا أن تكتفي بالشعارات في البيانات، بينما يُنتزع الخبز من فم الفقير.

