في قلب الريف المصري، وتحديدًا في قرى نجع حمدي التابعة لمحافظة قنا، يعيش المواطنون مأساة حقيقية بين العطش ومياه الصرف التي تحاصر منازلهم. مشهد متناقض يجسد إهمال الدولة وغياب المسؤولية، فالمياه النظيفة غائبة منذ شهور، بينما مياه الصرف الصحي تغمر الشوارع وتغزو البيوت.
يعيش الأهالي بين رائحة كريهة وبيئة موبوءة ومواسير متهالكة، في حين تلتزم الحكومة الصمت أو تكتفي بوعود جوفاء. ومع كل نداء استغاثة، يزداد غضب الناس الذين باتوا يشعرون أن حياتهم لا تساوي شيئًا في حسابات السلطة.
العطش في بلد النيل
يقول محمد عبد العال، أحد سكان قرية نجع حمدي: "نعيش على بُعد أمتار من النيل، ومع ذلك نشتري جالون المياه بعشرة جنيهات، والمياه لا تأتي إلا ساعتين في الأسبوع، لونها أصفر وريحتها كريهة، لا تصلح لا للشرب ولا للغسيل."
ويضيف: "قدمنا عشرات الشكاوى للمسؤولين في شركة المياه ومجلس المدينة، لكن لا أحد تحرك، كل مرة يقولوا لنا: فيه تطوير قريب، ولسه."
الأهالي يؤكدون أن شبكة المياه متهالكة منذ سنوات، وأن الحكومة لم تجددها رغم الوعود المتكررة، ما جعلهم يعتمدون على الطلمبات الجوفية التي تجلب مياهًا ملوثة بالحديد والمنجنيز. ويشير أحد الأهالي إلى أن “الأطفال يصابون بأمراض جلدية ومعوية بسبب المياه غير الصالحة”، بينما يظل المسؤولون في مكاتبهم المكيفة يتحدثون عن “مبادرة حياة كريمة”.
مياه الصرف.. كارثة أخرى
في الوقت نفسه، تحولت شوارع القرية إلى برك من مياه الصرف الصحي التي تتسرب من المواسير المكسورة. يقول الحاج سيد علي: "كل بيت عنده بيارة مليانة صرف، والمجاري طفحت في الشوارع. بنمشي وإحنا رافعين جلاليبنا علشان ما نتلوثش، ورائحة الصرف بقت تخنقنا."
ويتابع: "المياه دي دخلت بيوت ناس كتير وغرقت عفشهم، وفيه أطفال وقعوا فيها واتعوروا، محدش سائل ولا جاب سيرة."
وتشير أم حسن، وهي أم لثلاثة أطفال، إلى أن الصرف الصحي “بيغلي في الشوارع” مع حرارة الصيف، وتنتشر الحشرات والبعوض، بينما الوحدة الصحية في القرية خالية من الأطباء والأدوية. وتقول بغضب: "بيتكلموا عن التطوير وحياة كريمة، واحنا بنعيش في مستنقع حرفيًا."
وعود رسمية بلا تنفيذ
رغم تكرار الشكاوى والمناشدات، لم يصل إلى القرية أي وفد من المحافظة أو من شركات المياه والصرف. يؤكد الأهالي أن مسؤولين زاروا المنطقة قبل عامين والتقطوا الصور ووعدوا بحلول عاجلة، لكن شيئًا لم يتغير.
يقول الشاب أحمد فؤاد: "بيجوا يصوروا بس لما الإعلام يتكلم، وبعد كده ما نشوفش حد. حتى لما نروح للمحافظة، الموظف يقولك: قدم طلب رسمي واستنى الدور."
ويضيف: "الدور ده بقاله سنين، والناس بتموت ببطء من العطش والمرض."
الواقع يشير إلى فشل ذريع في إدارة ملف المرافق بالريف، حيث يتم إطلاق مشاريع بمليارات الجنيهات في المدن الكبرى بينما تُترك القرى الفقيرة تغرق في الإهمال. ويؤكد مختصون أن السبب في تكرار هذه الكوارث هو غياب المتابعة والرقابة، وانتشار الفساد الإداري داخل بعض المجالس المحلية وشركات المياه.
المرض والذل... ثمن الإهمال
يقول محمود عبد الرحيم، مدرس بالقرية: "طلابنا بييجوا المدرسة بملابسهم متسخة من طين الصرف، والريحة في الفصول لا تطاق. إزاي عايزين الطفل يتعلم وهو عايش وسط التلوث؟"
ويضيف: "فيه أسر بتسيب بيوتها وبتروح عند قرايبها في القرى التانية لحد ما الميه تنشف من الشوارع. ده مش عيشة بني آدمين."
الأطباء المحليون حذروا من تفشي أمراض الكبد والفشل الكلوي نتيجة المياه الملوثة، وأشار أحدهم إلى أن “الوضع البيئي في نجع حمدي كارثي ويحتاج تدخلًا عاجلًا قبل أن تتحول القرية إلى بؤرة أوبئة.”
حكومة بعيدة عن الناس
المؤسف أن ردّ الحكومة دائمًا هو الإنكار أو التذرع بـ"نقص التمويل"، في حين تُنفق المليارات على المشروعات التجميلية في العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة.
يتساءل المواطنون بمرارة: "هو احنا مش مصريين؟ ليه العناية بس في المدن الجديدة، واحنا نموت هنا بالعطش والمجاري؟".
ويؤكد الناشط المحلي رمضان يوسف أن “الدولة تتحدث كثيرًا عن التنمية المتوازنة، لكن الواقع يقول إن الريف المصري آخر أولوياتها. نجع حمدي نموذج مصغر لمئات القرى المنسية التي لا يزورها مسؤول ولا يراها إعلام.”
ختاما ففي قرى نجع حمدي، الماء رمز للحياة تحوّل إلى لعنة. عطش فوق الأرض وصرف تحتها، وصرخات تملأ الفضاء دون مجيب. مأساة تكشف الوجه الحقيقي لسياسات الحكومة التي تتحدث عن "حياة كريمة" بينما يختنق الناس في مستنقعات الإهمال.
لقد فقد المواطنون ثقتهم في وعود السلطة، وأدركوا أن لا أحد يسمع أنينهم، وأن إنقاذهم لن يأتي إلا حين تعود الدولة إلى وظيفتها الأولى: خدمة الناس لا المتاحف، والاهتمام بالإنسان قبل الحجر.

