جمال قاسم

متخصص في دراسات الشرق الأوسط والعلوم السياسية في جامعة غراند فالي ‏ستيت ‏بالولايات المتحدة

 

أخيرا وضعت الحرب في غزة أوزارها ‏-‏رغم الانتهاكات الأخيرة من قبل إسرائيل- بعد ضمانات دولية بعدم عودة الحرب مجددا ‏مرة أخرى تلبية لأهم المطالب الأساسية لحركة حماس خلال فترات ‏مفاوضات وقف إطلاق النار السابقة، وما صاحبها ‏حينئذ من إطلاق بعض الأسرى الإسرائيليين.

 

‏توقفت الحرب في غزة ‏الآن بعد مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة، ووضعه إطارا زمنيا لإطلاق الأسرى ‏الأحياء وإعادة جثامين الموتى منهم ووقف القتال.

 

‏استجابت حماس بإيجابية لهذه الشروط، حيث أطلقت الأسرى الأحياء وبدأت في إعادة جثامين الموتى في ظل عملية بحث شاقة؛ ‏نسبة للدمار الشامل في غزة، وقلة الإمكانات المادية لتسهيل عملية البحث ‏في وقت وجيز. ‏

 

ولكن يبقى السؤال ‏المهم التالي: لماذا قرر ترامب إيقاف الحرب الآن في غزة وليس منذ بداية توليه الرئاسة في 20 يناير الماضي/كانون الثاني؟

 

حاول بعض المحللين السياسيين تناول الأسباب الإقليمية والدولية التي ساعدت في تهيئة المناخ السياسي لعقد هذه الصفقة الأخيرة، مثل تسارع وتيرة الضغوط الدولية؛ نتيجة تدهور الأوضاع الإنسانية المريع في غزة، واعتراف الدول الغربية الحليفة لإسرائيل- مثل بريطانيا، وفرنسا، وكندا، وأستراليا وغيرها من الدول ‏الغربية- بدولة فلسطين.

 

وكذلك ربط البعض ‏عملية استهداف إسرائيل قيادات حماس في قطر وما تلاها من تطورات إقليمية ودولية، سارعت في النهاية إلى إبرام هذه الصفقة.

 

و‏على الرغم من أهمية هذه الضغوط الدولية والإقليمية، فإنني أعتقد أن محاولة فهم لماذا كان قرار الرئيس ترامب إيقاف الحرب الآن، تعود ‏بالدرجة الأولى ‏لشخصية الرئيس الأميركي ترامب نفسه، وأسلوبه الخاص في التفاوض.

 

أسلوب ترامب التفاوضي

 

علينا أولا إدراك أن الرئيس ترامب ليس رئيسا تقليديا مثل بقية الرؤساء الأميركيين الذين يعتمدون كثيرا على آراء الخبراء والمستشارين ‏قبل اتخاذ قراراتهم السياسية الخارجية الهامة.

 

‏جاء ترامب من خلفية ريادة الأعمال التجارية ‏وعقد الصفقات التجارية، حتى أصبح اسمه علامة تجارية عالمية مميزة في مجال العقارات والفنادق والمنتجعات السياحية، ملخصا تجاربه في كتب ‏نشرها تحدث فيها حول كيفية عقد الصفقات التجارية.

 

لا يختلف أسلوب ترامب التفاوضي في التجارة عن أسلوبه في حل النزاعات الدولية، مثل تفاوضه المباشر مع طالبان، واتصاله شخصيا بأحد قادة طالبان للحديث حول انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، وضمان عدم مهاجمتها من قبل طالبان. ‏

 

يعشق الرئيس الأميركي عقد الصفقات الكبيرة وإبرامها متى ما كان الطرف الآخر راغبا في الوصول إلى اتفاق، ولكنه في الوقت نفسه سيقبل بإلغاء المفاوضات والانسحاب منها كلية متى ما أحس بأن الطرف الآخر متشدد في مواقفه ولا يرغب في الوصول إلى اتفاق مقبول له.

 

‏يعتمد ترامب أيضا على أسلوب رفع سقف المطالب ‏في التفاوض -‏كأسلوب ضغط قوي- وذلك حينما أعلن عند دخوله البيت الأبيض عن رغبته في ترحيل سكان غزة وامتلاك الولايات المتحدة القطاع؛ لإقامة منتجعات سياحية عالمية فيها.

 

سارعت حكومة نتنياهو عندئذ بالترحيب الحار-الماكر- بهذا الطرح المفاجئ كحل أخير ودائم لمشكلة غزة. بيدَ أن رفض قادة المنطقة ‏العربية، وكذلك السلطة الفلسطينية وحركة حماس، هذا المقترح جملة وتفصيلا، قد أفشل الفكرة باعتبارها ضربا من الجنون، لما يترتب عليها من آثار لا يمكن تصورها في المنطقة المشتعلة أصلا ‏بسبب الحروب الإسرائيلية في غزة، ولبنان، وسوريا، ‏بالإضافة إلى هجماتها العسكرية ضد إيران، واليمن.

 

ولكن ربما نجحت ‏طريقة رفع سقف المطالب إلى أخذ دعوات ترامب -من قبل طرفي الصراع في غزة- على محمل الجد ‏لتساهم في تهيئة ظروف قبول مبادرته الأخيرة.

 

الأمر الثاني: جاء ترامب ‏للحكم مدفوعا بقاعدة شعبية ترى ضرورة إيقاف الحروب ‏الطويلة، مثل حربي أفغانستان، والعراق، وتقليل دور الولايات المتحدة الأميركية في العالم، والتركيز على حل مشاكل الولايات المتحدة الداخلية؛ من تدهور للاقتصاد، والهجرة غير الشرعية، وارتفاع معدلات الجريمة، تحت شعار: " أميركا أولا".

 

ولذلك نلاحظ أن الضربات العسكرية التي شنها ترامب، هي ‏ضربات خاطفة ‏سواء كانت ‏ضد جماعة الحوثيين في اليمن- حينما استهدفت الأخيرة الملاحة الدولية- ‏أو خلال ضربته الجوية للمنشآت النووية في إيران. ليعلن -وهو التاجر الحصيف- بعد ذلك صراحة أنه يرفض الانجرار في حرب طويلة لا تعود بفائدة اقتصادية.

 

وعليه نجد أن الرئيس ترامب سرعان ما توصل لاتفاق مع الحوثيين يقضي بعدم الدخول في مواجهات عسكرية، وتجنب استهداف الملاحة الدولية دون أن يشمل ‏هذا الاتفاق حماية الملاحة الإسرائيلية. وكذلك الحال بالنسبة لإيران فقد أرسل إليها رسائل سياسية واضحة، تشير إلى عدم رغبته في الدخول في حرب شاملة ضد الأخيرة.

 

ولا يعني ذلك أن ترامب ليس صديقا لإسرائيل، أو أنه تخلى عن صداقة إسرائيل، ‏فقد حرص أن يبدأ زيارته الأخيرة من إسرائيل، وخاطب الكنيست الإسرائيلي؛ ‏ليؤكد أنه هو صاحب اليد العليا -وليس رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو- في إنهاء الحرب والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين.

 

أرسل ترامب مبعوثه الخاص ويتكوف وزوج ابنته جاريد كوشنر- وهما يهوديان أميركيان لمخاطبة الحشد الشعبي في ساحة المختطفين- التي لم يزرها أبدا رئيس الوزراء الإسرائيلي من قبل. شكر الإسرائيليون ترامب على جهوده في عودة بقية الأسرى سالمين إلى أهليهم من خلال ضغوطه الشخصية على نتنياهو ‏للقبول بالمبادرة الأخيرة.

 

لم يكن نتنياهو يريد إلا القضاء على حماس نهائيا وإلى الأبد مما يفسر فشل جهود إنهاء الحرب في مفاوضات ‏وقف إطلاق النار المؤقتة السابقة.

 

كانت حماس تطالب، حقيقة، من بداية ‏الحرب بضرورة التفاوض على مقايضة الأسرى الإسرائيليين بالسجناء الفلسطينيين مع وجود ضمانات دولية بعدم عودة الحرب مرة أخرى، الأمر الذي كان يرفضه ‏رئيس الوزراء الإسرائيلي رفضا باتا؛ لأنه كان يريد استسلاما عسكرية مهينا لحماس يحقق رغبته في نصر سياسي ‏ساحق؛ لأن وجود حماس في غزة بعد الحرب يضعف النصر الإسرائيلي رغم الدمار الشامل لغزة.

 

‏ترامب وعلاقاته الشخصية

 

‏ يعتمد الرئيس الأميركي على حدسه الشخصي وعلاقته مع الآخرين في اتخاذ القرارات المهمة الحاسمة الفورية، مثل قراره بالانسحاب من أفغانستان، وكذلك حينما أقنعه الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، برفع العقوبات عن سوريا وفتح صفحة جديدة مع الأخيرة بعد لقائه مع رئيسها أحمد الشرع ومصافحته له في الرياض.

 

‏لقد كان قرار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا -بعد قطيعة دامت عقودا من الزمان- مفاجئا ليس للعالم فقط، بل ربما حتى لأقرب مستشاري الرئيس ترامب ‏نفسه. اتخذ الرئيس ترامب هذا القرار الإستراتيجي في احتفال في المملكة العربية السعودية، وعلى الهواء مباشرة؛ استجابة للأمير محمد بن سلمان ‏ليؤكد تقديره للقيادة السعودية.

 

 ونلاحظ ذلك أيضا من خلال إصرار ترامب وضغوطه الشخصية على نتنياهو ‏عندما طالبه بالاتصال تلفونيا من مكتبه في البيت الأبيض معتذرا -في سابقة نادرة- لدولة قطر عن الهجوم الإسرائيلي ‏ضدها ‏ومقتل أحد المواطنين القطريين ‏لتشكل بعْدا جوهريا في مواصلة قطر جهود ‏وساطتها الهامة لإيقاف الحرب.

 

والجدير بالإشارة هنا، أن ترامب قد أصدر أيضا أمرا تنفيذيا رئاسيا يقضي برفع مستوى العلاقات الأمنية مع دولة قطر، وأن الولايات المتحدة ستتدخل لمساعدة الدوحة عند حدوث أي اعتداء عليها مهما كان مصدره.

 

لقد رأى ترامب في الهجوم الإسرائيلي على قطر أمرا محرجا شخصيا في ضوء علاقاته الخاصة مع قطر، وبقية دول الخليج العربي.

 

‏وفي تصريح مثير لقناة "سي بي إس" الأميركية، أكد كل من ويتكوف، مبعوث ترامب الخاص، وجاريد كوشنر، زوج ابنته، استياء الرئيس الأميركي الكبير من الهجوم الإسرائيلي على قطر، واعتقاده بأن إسرائيل ‏ربما أصبحت خارج السيطرة، و‏لذلك يجب إيقاف الحرب وإنقاذ إسرائيل من نفسها.‏

 

 ‏لقد نجحت دول الخليج في إحداث تأثير إيجابي على التوجهات الخارجية الأميركية سواء في ملف سوريا، أو في ملف إيقاف الحرب في غزة، والتخطيط لإعادة العمران فيها.

 

وهو نجاح لم تستطع تحقيقه ‏دول أوروبية كبيرة مثل فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وكذلك كندا، ودول أخرى غير حليفة للولايات المتحدة، مثل روسيا، والصين، والهند.

 

‏ وجد ترامب أن علاقته الشخصية مع بوتين لم تنجح في إبرام صفقة لإنهاء الحرب في أوكرانيا- المشتعلة لعدة سنوات حتى بعد استضافة الأخير في ألاسكا، ولكنه كان بمقدوره إنهاء حرب غزة بقليل من الضغط على نتنياهو.

 

‏وهو في ذلك يعد أقوى رئيس أميركي منذ أيزنهاور ‏في القدرة على ممارسة ضغط على إسرائيل ‏لتقبل بإيقاف الحرب. وكما أخبر الرئيس الفرنسي فإن الرئيس ترامب هو الشخص الوحيد القادر على إنهاء الحرب في غزة.

 

 ويبقى التساؤل هنا: هل يستثمر ترامب هذه القدرة الشخصية في تحقيق سلام شامل في المنطقة يسمح أخيرا ‏بالإقرار بقيام دولة فلسطين؟

 

أزعم أنه يملك القدرة الحقيقية على فعل ذلك- رغم نفوذ أصدقاء إسرائيل في واشنطن- ولكنه ربما لم يملك الرغبة في تحقيق ذلك بعد، وكل ما يحتاجه هو أن يبلور قناعة شخصية بأن قيام دولة فلسطين ضرورة أمنية وإستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، وللمنطقة.