تواجه مصر أزمة متفاقمة في قطاع الصحة النفسية، تتمثل في عجز حاد في عدد الأطباء النفسيين المتخصصين، يتزامن مع زيادة ملحوظة في الاضطرابات النفسية والجرائم الأسرية.
هذه الفجوة الخطيرة لا تهدد حياة ملايين المصريين فحسب، بل تكشف أيضاً عن إهمال حكومي ممنهج وسياسات تزيد من معاناة المواطنين بدلاً من التخفيف عنهم، مما يحول الحصول على الرعاية النفسية إلى رفاهية لا يقدر عليها إلا القليلون.
 

فجوة هائلة بين العرض والطلب
تُظهر الأرقام الرسمية واقعاً مقلقاً؛ فبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ عدد الأطباء النفسيين في مصر 1,832 طبيباً في عام 2021.
ووفقاً لبيان أحدث من وزارة الصحة في عام 2024، فإن عدد المتخصصين والاستشاريين المسجلين رسمياً لا يتجاوز 849 طبيباً.

وباحتساب كافة الفئات، يصل العدد الإجمالي لمن يقدمون الخدمات النفسية إلى حوالي 1,106 أطباء فقط.
هذا يعني وجود طبيب نفسي واحد تقريباً لكل 50 ألف مواطن ، في حين تقدر الحاجة الفعلية بما لا يقل عن 7,000 طبيب نفسي لتلبية احتياجات المجتمع.

الأسوأ من ذلك هو التوزيع الجغرافي غير العادل لهؤلاء الأطباء، حيث يتركز معظمهم في القاهرة والمدن الكبرى، بينما تفتقر محافظات وأقاليم بأكملها للخدمات النفسية الأساسية.
هذا النقص الحاد يأتي في وقت تشير فيه التقديرات إلى أن حوالي 25% من المصريين يعانون من مشكلات نفسية، أبرزها الاكتئاب، لكن 0.4% فقط منهم يتلقون العلاج اللازم.
 

انتشار الجرائم الأسرية
يشهد المجتمع المصري تفشيًا مقلقًا لظاهرة الجرائم الأسرية التي تحولت إلى نزيف يومي يهدد استقرار الأسر وسلامة أفرادها.
الأرقام الصادرة عن "مرصد جرائم العنف ضد النساء والفتيات" ترسم صورة قاتمة؛ ففي عام 2024 وحده، تم تسجيل 1195 جريمة عنف ضد النساء والفتيات، من بينها 540 جريمة وقعت داخل نطاق الأسرة. وبلغ عدد جرائم القتل 363 جريمة، ارتكب أفراد الأسرة (زوج، أب، أخ) 261 منها.

هذا المنحنى التصاعدي المخيف، الذي قفز من 415 جريمة في عام 2020 إلى هذا الرقم القياسي في 2024، لا يمكن فصله عن منظومة متكاملة من الأسباب؛ فالضغوط الاقتصادية والنفسية المتزايدة، وغياب الدعم النفسي، تتضافر مع موروثات اجتماعية وثقافية خاطئة، مثل جرائم "الشرف" التي تشكل دافعًا لنسبة كبيرة من هذه الجرائم، ومفاهيم السيطرة الذكورية
ويزيد من تفاقم الوضع غياب قانون رادع وشامل لمناهضة العنف الأسري، مما يترك الضحايا، وخاصة النساء والأطفال، دون حماية حقيقية، ويجعل من البيت الذي من المفترض أن يكون مصدر الأمان، ساحة للخوف والعنف
 

هجرة العقول وسياسات طاردة
يعود هذا العجز بشكل كبير إلى هجرة الأطباء النفسيين إلى الخارج، خاصةً إلى دول الخليج، بحثاً عن ظروف عمل أفضل ورواتب مجزية. فالأطباء في مصر يعانون من تدني الأجور، وزيادة ساعات العمل، وغياب الحوافز والدعم الحكومي. وقد كشف تقرير لنقابة الأطباء عن استقالة أكثر من 11,500 طبيب بين عامي 2019 و2022، مما يعكس بيئة عمل طاردة للكفاءات.

تزيد من تفاقم المشكلة التكاليف الباهظة للدراسات العليا والتدريب في مجال الطب النفسي، والتي تُحسب بالدولار في كثير من الأحيان، مما يجعل مواكبة التطورات العلمية أمراً شبه مستحيل للأطباء ذوي الدخل المحدود. وبدلاً من دعمهم، يبدو أن السياسات الحكومية تتجاهل هذه المشكلات الجوهرية تماماً.
 

الإهمال الحكومي: قرارات تزيد الطين بلة
يتجلى الإهمال الحكومي في أبهى صوره عبر سلسلة من القرارات والسياسات التي فاقمت الأزمة. ففي أغسطس 2025، أصدرت وزارة الصحة قراراً برفع أسعار الخدمات الطبية النفسية في المستشفيات الحكومية بنسب تصل إلى 900%. تراوحت تكلفة الإقامة لليوم الواحد بين 150 جنيهاً في القسم الاقتصادي و550 جنيهاً في الأجنحة الخاصة، بخلاف أسعار الجلسات والفحوصات.

هذا القرار، الذي وصفه خبراء ونواب برلمانيون بأنه "كارثة اجتماعية"، أغلق الباب أمام الفئات الأقل دخلاً للحصول على العلاج، وحول المرضى النفسيين إلى "قنابل موقوتة" داخل المجتمع. ويأتي هذا في ظل تراجع الدولة عن التزاماتها الدستورية بتوفير الرعاية الصحية للجميع.

إضافة إلى ذلك، تعاني المستشفيات الحكومية القليلة المتاحة، مثل مستشفيي الخانكة والعباسية، من إهمال مزمن، ونقص في الأدوية، وغياب لوسائل العلاج الحديثة، فضلاً عن تقارير متكررة عن انتهاكات لحقوق المرضى وفساد إداري. وبينما تعلن الحكومة عن خطط لافتتاح منشآت جديدة ومنصات إلكترونية ، فإنها تتجاهل الأزمة الحقيقية المتمثلة في نقص الكوادر البشرية المؤهلة وارتفاع تكلفة الخدمة، مما يجعل هذه المبادرات جوفاء وبلا تأثير حقيقي.

إن ترك قطاع الصحة النفسية ينهار بهذا الشكل لا يعكس فقط فشلاً في إدارة الموارد، بل هو دليل على عدم اكتراث الحكومة لأوجاع شريحة كبيرة من المصريين. فبدلاً من أن تكون جزءاً من الحل، أصبحت السياسات الحكومية جزءاً أساسياً من المشكلة، مكرسةً واقعاً مريراً مفاده أن "العلاج لمن يملك الثمن"، ومخلفةً وراءها مجتمعاً أكثر عرضة للأمراض النفسية وعواقبها الوخيمة.