في مفارقة جديدة تعكس عمق الهوة بين الخطاب الحكومي المتفائل والواقع الاقتصادي المنهار، جاءت تصريحات وزير المالية بحكومة مدبولي أحمد كجوك من واشنطن لتكشف عن اختلاف واضح بين ما تروّجه الحكومة وما تعيشه البلاد فعليًا. الوزير تحدث بثقة عن “تحسن مؤشرات الدين” وعن خطة لخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 75% خلال ثلاث سنوات، في حين تؤكد بيانات صندوق النقد الدولي أن الديون الخارجية المصرية ستتجاوز 202 مليار دولار بحلول عام 2030 — أي بعد خمس سنوات فقط من الآن.
هذا التناقض لا يمكن اعتباره مجرد اختلاف في التقديرات؛ بل هو تعبير عن سياسة حكومية تُخفي عمق الأزمة وراء عناوين براقة وعبارات دعائية، في وقت تتراكم فيه الديون لتشكل سيفًا مسلطًا على رقاب المصريين. فبينما يتحدث الوزير عن “إصلاح مالي ناجح”، يرى مراقبون أن الحكومة تدير اقتصاد البلاد بمنطق “الاقتراض من أجل البقاء”، لا من أجل التنمية، وأنها حولت مصر إلى دولة ديون يعيش اقتصادها على القروض والمنح، لا على الإنتاج والعمل الحقيقي.
وعود تتهاوى أمام أرقام الواقع
تستند الحكومة في خطابها إلى “نسبة الدين للناتج المحلي” كمؤشر لتقدمها، لكن هذه النسبة يمكن تجميلها بسهولة عبر تضخيم الناتج الاسمي أو التوسع في مشروعات إنشائية لا تدر عائدًا حقيقيًا. في المقابل، تكشف أرقام المؤسسات الدولية عن اتجاه خطير: فبينما تتحدث الحكومة عن خفض النسبة، يتوقع صندوق النقد أن يرتفع الدين الخارجي من 162.7 مليار دولار في يونيو 2025 إلى 202 مليار دولار في عام 2030.
إن هذه الأرقام لا تترك مجالًا للتفاؤل، بل تشير إلى أن الحكومة تسير في طريق تصاعدي نحو مزيد من الارتهان للمؤسسات الدولية. فكلما توسعت في الاقتراض، تضاءلت قدرتها على اتخاذ قرار اقتصادي مستقل، وتعمقت تبعيتها لمراكز التمويل الأجنبية. وهكذا تتحول وعود “الاستدامة المالية” إلى مجرد قناع يخفي سياسة إدمان الاقتراض.
موازنة تخنق المواطن وتغذي الدين
تظهر الكارثة بوضوح في بنية موازنة الدولة نفسها. فبدلاً من أن تذهب الأموال إلى المدارس والمستشفيات والبنية التحتية، تلتهم خدمة الدين الجزء الأكبر من الإنفاق العام. ووفقًا لموازنة 2024/2025، قفزت مخصصات فوائد الديون بنسبة 63%، بينما تراجع الإنفاق على الاستثمارات الحكومية بنحو 15%.
هذه الأرقام تكشف أولويات حكومة تفضل سداد الفوائد على سداد احتياجات الناس، وتختار إرضاء الدائنين الدوليين على حساب الفقراء والمهمشين. والنتيجة أن المواطن يدفع الثمن مرتين: مرة عبر إجراءات التقشف وخفض قيمة الجنيه المتكرر، ومرة أخرى عبر تدهور الخدمات الأساسية وانهيار مستويات المعيشة.
حلقة مفرغة من الاستدانة
لقد أدخلت الحكومة نفسها والبلاد في حلقة مفرغة: قروض جديدة لتسديد القديمة، وعجز دائم يتفاقم عامًا بعد عام. إنها سياسة تقوم على تأجيل الكارثة لا منعها. وكما وصفها أحد الخبراء الاقتصاديين، فهي “إدارة الانفجار المالي بالمسكنات”، دون رؤية أو خطة لإصلاح حقيقي.
تلك السياسات لا تضع مصر فقط تحت رحمة المقرضين، بل تفتح الباب أمام شروط قاسية وبرامج تقشفية تفرضها المؤسسات الدولية، لتتحول حياة المصريين إلى اختبار دائم للصبر والمعاناة.
حلول شكلية وفلسفة خاطئة
تحاول حكومة السيسي تجميل الأزمة بإطلاق “استراتيجيات لإدارة الدين” أو الحديث عن “مبادلة جزء من الديون باستثمارات”، لكنها بذلك تتعامل مع النتائج لا الأسباب. فالمشكلة ليست في إدارة الدين بل في الاعتماد عليه كركيزة للاقتصاد. دون تغيير جذري في فلسفة التنمية، ودون التحول إلى نموذج يعتمد على الإنتاج والتصدير بدلاً من الاستدانة والاستهلاك، ستظل كل هذه الوعود مجرد صدى أجوف في المؤتمرات الدولية.
الخلاصة
من واشنطن إلى القاهرة، تواصل حكومة السيسي بيع الوهم لمواطنيها. وبدلاً من الاعتراف بفشل النموذج القائم على الديون، تواصل تقديم الأرقام الوردية بينما يغرق الاقتصاد في وحل من الالتزامات التي سيحمل عبئها الأبناء والأحفاد.
إن دولة تستدين لتسدّد ديونها، وتقصي شعبها عن أولويات التنمية، وتتعامل مع القروض بوصفها إنجازًا، لا يمكنها أن تبني مستقبلًا مستقرًا. وما بين 162.7 مليار دولار في 2025 و202 مليار دولار في 2030 تختبئ قصة كاملة عن نظام يبيع المستقبل مقابل لحظة سياسية عابرة من الوهم والإنكار.