في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة المصرية عن خطط "الإصلاح الاقتصادي" و"الاستثمار في رأس المال البشري"، تتكشف الأرقام عن كارثة وطنية صامتة تهدد مستقبل التنمية في البلاد. فخلف الشعارات البراقة، تنزف مصر كفاءاتها واحدة تلو الأخرى، بينما تقف الدولة متفرجة أمام أكبر موجة هجرة للعقول في تاريخها الحديث.
فبحسب عضو في المجلس الأعلى لنقابة المهندسين، يعمل نحو 40% من إجمالي المهندسين المصريين المسجلين بالنقابة خارج البلاد. ومن بين أكثر من 608 آلاف مهندس، يوجد ما يقارب 243 ألفًا في الخارج، يساهمون في بناء اقتصادات الدول العربية والأجنبية بدلاً من وطنهم. وحدها السعودية تستقطب حوالي 70 ألف مهندس مصري، تليها الإمارات بنحو 35 ألفًا، ثم قطر بما بين 15 و20 ألفًا.
هذا النزيف البشري لا يُقاس فقط بعدد المهاجرين، بل بحجم الخسارة الفادحة التي تتكبدها مصر نتيجة إهدار استثمارات ضخمة في التعليم والتأهيل دون عائد حقيقي. فكل مهندس يغادر البلاد يحمل معه سنوات من الخبرة، وملايين الجنيهات من الإنفاق العام على التعليم، ويترك وراءه فراغًا لا يسده خريجو اليوم، الذين يدخلون سوق العمل بمعدل 25 ألفًا سنويًا، معظمهم دون المهارات المطلوبة.
رواتب متدنية.. وهجرة قسرية نحو الكرامة
لا يحتاج الأمر إلى كثير من التحليل لفهم الدوافع وراء هذا النزوح الجماعي؛ فالأرقام وحدها كفيلة بتفسير المشهد. في مصر، لا يتجاوز راتب المهندس حديث التخرج 5 إلى 8 آلاف جنيه شهريًا (ما يعادل 105 إلى 168 دولارًا فقط)، بينما يحصل المهندس صاحب الخبرة الكبيرة على نحو 30 ألف جنيه (حوالي 630 دولارًا). في المقابل، يتقاضى نظيره في الخليج ما بين 3 إلى 5 آلاف دولار شهريًا، إذ يصل متوسط راتب المهندس المصري في السعودية إلى 17,550 ريالًا (نحو 4,680 دولارًا).
في ظل هذا التفاوت الهائل، تبدو الهجرة ليست خيارًا بل ضرورة معيشية. فحتى بعد إعلان الحكومة عن رفع الحد الأدنى للأجور إلى 7,000 جنيه (147 دولارًا)، اعتبر خبراء الاقتصاد القرار تجميليًا لا يمس الواقع، مشيرين إلى أن حد الكفاية الفعلية للمواطن المصري لا يقل عن 12 ألف جنيه شهريًا (252 دولارًا). ما يعني أن المهندس – وغيره من أصحاب المؤهلات العليا – يعمل في وطنه تحت خط الكرامة الإنسانية.
فشل حكومي في إدارة سوق العمل
الأزمة أعمق من مجرد أرقام رواتب. إنها نتاج فشل هيكلي مزمن في إدارة سوق العمل. دراسة صادرة عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية (2024) كشفت عن ظاهرة أسمتها "هرم البطالة المقلوب"، حيث ترتفع معدلات البطالة بين خريجي الجامعات وتنخفض بين العمالة الأقل تعليمًا، في انعكاس صادم لاختلال هيكل الاقتصاد الوطني.
وتشير الدراسة إلى وجود "فائض مزدوج" في سوق العمل: خريجون بلا وظائف من جهة، وشركات تبحث عن كفاءات لا تجدها من جهة أخرى. هذه الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق تُعد السبب الجوهري في هروب الكفاءات، إذ يجد المهندس نفسه غير قادر على تحقيق ذاته داخل منظومة تفتقر إلى التخطيط والرؤية.
مديرة المركز، عبلة عبد اللطيف، انتقدت ما وصفته بـ"الجمود الهيكلي" في سياسات الحكومة، مؤكدة أن الأخيرة تكتفي "بمسكنات مؤقتة" بدلًا من إصلاح جذور الأزمة، مع غياب التنسيق بين مؤسسات التعليم وسوق العمل، وعجز القطاع الخاص عن استيعاب أكثر من 1.5 مليون شاب يدخلون السوق سنويًا.
نزيف بلا أفق
الهجرة اليوم لم تعد حلمًا أو مغامرة، بل ملاذًا أخيرًا من واقع خانق. المهندسون الذين يتركون مصر لا يبحثون فقط عن المال، بل عن بيئة تحترم الكفاءة وتكافئ الجهد. ومع استمرار غياب سياسات تحفّز الإبداع وتحمي الكفاءات، سيظل الوطن ينزف عقولًا ويستورد حلولًا.
لقد فشلت الحكومة في تحويل الثروة البشرية إلى قوة إنتاجية. وبدلًا من الاستثمار في الإنسان المصري، تركته يتآكل بين تضخم الأسعار، وتدني الأجور، وغياب الأمل. هجرة المهندسين ليست مجرد أرقام في تقرير، بل شهادة إدانة لنظام اقتصادي عاجز عن الحفاظ على أبنائه، ودليل على أن مصر، رغم كثرة مواردها، تفقد أثمن ما تملك: عقولها.