في الوقت الذي لا تزال فيه رائحة الركام تملأ شوارع غزة المنكوبة، تبدو القاهرة منشغلة بما هو أبعد من البعد الإنساني للأزمة. فبينما ينتظر الفلسطينيون إعادة بناء بيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم، تتحرك مصر بخطة محكمة لتكون المستفيد الاقتصادي الأكبر من مشروع إعادة الإعمار، الذي يقدر بنحو 53 إلى 70 مليار دولار. تصريحات الفريق كامل الوزير، نائب رئيس الوزراء ووزير الصناعة والنقل، لم تترك مجالاً كبيراً للالتباس؛ إذ قالها صراحة: غزة ستتحول إلى سوق كبرى للحديد — وهي عبارة كاشفة عن جوهر الرؤية الرسمية، التي ترى في المأساة فرصة تجارية لا أكثر.
من وسيط إنساني إلى مقاول إقليمي
على مدى شهور الحرب، قدمت القاهرة نفسها كوسيط إنساني وسياسي بين الأطراف المتحاربة. لكن ما إن توقف القتال، حتى تحولت لغة الخطاب الرسمي من "وقف نزيف الدم" إلى "فرص الاستثمار". لم تعد غزة قضية سياسية أو إنسانية، بل مشروع تنموي ضخم تُدار حوله الموازنات والعقود والمناقصات.
تتحدث الحكومة المصرية عن "فجر جديد للمنطقة"، لكن هذا الفجر يبدو أنه يشرق أولاً على الشركات المصرية، لا على أهالي غزة. فوفق تصريحات رسمية، أكثر من 50 شركة مصرية سجلت أسماءها بالفعل للمشاركة في مشروعات الإعمار، في مقدمتها شركات المقاولات والحديد والإسمنت المرتبطة بدوائر السلطة أو برجال أعمال مقربين منها.
المكاسب الاقتصادية.. شريان حياة للاقتصاد المصري
لا يمكن تجاهل أن الاقتصاد المصري يمر بأزمة غير مسبوقة: تراجع في الجنيه، تضخم خانق، ومعدلات بطالة متزايدة. ومن هنا تبدو غزة بمثابة "منقذ اقتصادي" محتمل للنظام، لا مجرد ملف إقليمي.
تقديرات رسمية تشير إلى أن إعادة الإعمار ستتضمن إزالة 50 مليون طن من الركام، وبناء نحو 200 ألف وحدة سكنية، وإنشاء مطار وميناء ومناطق صناعية جديدة. كل ذلك يعني عقوداً ضخمة بالمليارات، وفرص عمل بالآلاف، وتدفقاً للمواد المصرية نحو القطاع.
لكن هذه الفرص لا تنبع من روح تضامنية بقدر ما تمثل جزءاً من خطة اقتصادية متكاملة لإنعاش قطاعات المقاولات ومواد البناء والطاقة والخدمات اللوجستية داخل مصر. بكلمات أخرى، غزة تُبنى لتنعش القاهرة، لا العكس.
"صندوق الإعمار"… بوابة النفوذ والسيطرة
تسعى مصر لتثبيت موقعها في قلب العملية المالية من خلال إنشاء صندوق ائتماني دولي لإدارة أموال الإعمار. وبحكم سيطرتها على المعابر والحدود، ستكون القاهرة القناة الوحيدة لتدفق الأموال والمواد، ما يمنحها قدرة هائلة على الرقابة والتحكم في تفاصيل العملية، من منح التراخيص إلى تمرير العقود.
هذا التمركز لا يعني فقط مكسباً اقتصادياً، بل أيضاً أداة نفوذ سياسي. فالدولة التي تدير الإعمار تدير مستقبل غزة، وتتحكم في توازن القوى داخلها. وهنا تتحول "مصر الوسيطة" إلى "مصر المهيمنة"، تتحكم في حركة العمال والسلع والأموال، وتستخدم الإعمار كوسيلة ضغط سياسي على الفصائل الفلسطينية وحتى على المانحين الدوليين.
الأمن القومي في ثوب اقتصادي
تبرر القاهرة هذه الهيمنة بالحديث عن "الأمن القومي"، إذ ترى أن غزة المستقرة اقتصادياً هي ضمانة لأمن حدودها الشرقية. غير أن هذا الخطاب الأمني سرعان ما يتحول إلى ذريعة لتوسيع النفوذ المصري داخل القطاع، ليس فقط في إعادة الإعمار، بل أيضاً في تدريب الشرطة الفلسطينية والإشراف على مراحل التنفيذ، ما يضع ملف الأمن تحت إدارة غير مباشرة من القاهرة.
كامل الوزير.. حين يكشف الخطاب الرسمي المستور
ما لم يقله المسؤولون في بياناتهم الرسمية، قاله كامل الوزير بوضوح حين وصف غزة بأنها "سوق كبرى للحديد". الجملة التي أثارت الجدل ليست زلة لسان، بل تلخيص لرؤية اقتصادية بحتة تتعامل مع الدمار كفرصة. هذا التصريح يفضح جوهر السياسة المصرية: الربح أولاً، ثم السياسة، ثم الإنسان في المرتبة الأخيرة.
في الوقت الذي تتحدث فيه الأمم المتحدة عن الحاجة إلى معالجة الأوضاع الإنسانية المتدهورة، تتحدث القاهرة عن العقود والمصانع واللوجستيات. وبينما ينتظر أهالي غزة إعادة بناء حياتهم، تُرسم على الورق خرائط لمشاريع عملاقة تخدم في المقام الأول الاقتصاد المصري الغارق في أزماته.
من الواضح أن خطة مصر لإعادة إعمار غزة ليست عملاً إنسانياً خالصاً، بل مشروعاً اقتصادياً واستراتيجياً ضخماً يخدم أولاً مصالح النظام. من السيطرة على التمويل والمعابر إلى منح الأولوية للشركات المحلية، تتحول المأساة الفلسطينية إلى فرصة لإنعاش خزائن القاهرة.
لقد نجح كامل الوزير، دون قصد ربما، في كشف المستور: إعادة الإعمار بالنسبة لمصر ليست "هبة سياسية" ولا "مبادرة إنسانية"، بل صفقة اقتصادية محكمة تهدف إلى إنقاذ الداخل المصري، حتى لو كان الثمن المتاجرة بآلام غزة.