شهدت قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك لحظة لافتة، عندما انسحب عدد كبير من الوفود الدولية مع بداية كلمة رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مشهد يعكس حجم الغضب الدولي المتصاعد من السياسات الإسرائيلية، خاصة في ظل الحرب المدمرة على غزة التي خلفت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين.

 

عزلة متنامية
انسحاب معظم ممثلي الدول الأعضاء بمجرد صعود نتنياهو إلى منصة الخطاب لم يكن مجرد فعل احتجاجي رمزي، بل مؤشر على أن إسرائيل تواجه أوسع عزلة دبلوماسية منذ سنوات. فبعد حرب السابع من أكتوبر وما تبعها من حصار وقصف متواصل على قطاع غزة، تراجعت قدرة إسرائيل على تبرير أفعالها أمام المجتمع الدولي، حتى بين حلفائها التقليديين الذين باتوا يواجهون ضغوطًا داخلية من شعوبهم الرافضة للمجازر بحق المدنيين.
 

نتنياهو يكرر خطاب "المهمة"
ورغم مشهد الانسحاب، مضى نتنياهو في خطابه، قائلاً إن "بقايا حماس لا تزال موجودة في مدينة غزة ويجب أن ننهي المهمة بأسرع وقت ممكن". هذه العبارة تعكس إصرار الحكومة الإسرائيلية على الاستمرار في الحرب، رغم فشلها الواضح في تحقيق أهدافها المعلنة بعد مرور قرابة عام كامل على اندلاعها.
حديثه عن "إنهاء المهمة" بدا منفصلًا عن الواقع، فالتقارير الدولية والإسرائيلية نفسها تشير إلى أن المقاومة في غزة ما زالت قادرة على القتال وتنفيذ عمليات نوعية، بينما تعيش إسرائيل تحت ضغط أمني وسياسي غير مسبوق.
 

"العمل القذر" وابتزاز الغرب
وفي محاولة لكسب التعاطف الغربي، نقل نتنياهو عن مسؤولين ألمان قولهم إن "إسرائيل تقوم بالعمل القذر الذي لا يريد أحد القيام به". هذا الخطاب المكرر يهدف إلى تصوير العدوان على غزة كجزء من معركة عالمية ضد ما يسميه "الإرهاب"، لكن رد الفعل الدولي، من خلال الانسحاب الجماعي، أظهر أن هذه السردية باتت مستهلكة وغير مقنعة.
بل إن استخدام مصطلح "العمل القذر" قد يرتد على إسرائيل نفسها، لأنه يضعها مباشرة في خانة الدولة التي ترتكب جرائم نيابة عن الآخرين، وهو ما ينسف الصورة التي حاولت بناءها لعقود بأنها "واحة الديمقراطية" في الشرق الأوسط.
 

اتهام القادة بالرضوخ
نتنياهو لم يكتف بتكرار شعارات الحرب على "الإسلاميين المتطرفين"، بل هاجم قادة العالم قائلاً: "أقول لقادة العالم الذين يرضخون لضغوط الإسلاميين المتطرفين: يجب عليكم دعم إسرائيل". هذا التصريح عكس بوضوح حالة الانفعال والتوتر التي يعيشها رئيس الحكومة، بعدما أدرك أن المزاج العالمي يتغير بشكل جذري لصالح الفلسطينيين.
فالمظاهرات الحاشدة التي تشهدها العواصم الأوروبية والأمريكية، وارتفاع أصوات أحزاب المعارضة والحقوقيين، وضغوط الرأي العام، كلها عوامل جعلت القادة الغربيين أكثر حذرًا في دعمهم المطلق لإسرائيل.
 

ارتداد الخطاب الإسرائيلي
يبدو أن نتنياهو لم يستوعب بعد أن لغة التحدي والابتزاز لم تعد تجدي. فبينما يواصل وصف المقاومة الفلسطينية بـ"الإرهاب"، تتزايد الأصوات الحقوقية والإعلامية التي توثق جرائم الحرب في غزة، من استهداف المستشفيات والمدارس إلى الحصار الذي حرم أكثر من مليوني إنسان من الغذاء والدواء والكهرباء.
الأمم المتحدة نفسها عبرت مرارًا عن قلقها العميق من الكارثة الإنسانية في القطاع، ومع ذلك يتجاهل نتنياهو هذه الإدانات ويواصل تسويق خطاب يزداد عزلة يومًا بعد يوم.
 

دلالات المشهد
إن مشهد الانسحاب الجماعي من كلمة نتنياهو يحمل عدة رسائل سياسية مهمة:
رفض عالمي متصاعد لسياسات الاحتلال والعدوان.

  • تآكل صورة إسرائيل كحليف استراتيجي موثوق في الغرب.
  • انتصار رمزي للفلسطينيين الذين نجحوا في إعادة قضيتهم إلى صدارة المشهد الدولي.
  • ضعف القيادة الإسرائيلية التي لم تعد قادرة على فرض روايتها كما في السابق.

وختاما يمكن القول إن كلمة نتنياهو في الأمم المتحدة لم تضف شيئًا جديدًا سوى مزيد من الانكشاف والعزلة. فبينما يصر على تصوير الحرب على غزة كمهمة عالمية ضد "التطرف"، كان رد المجتمع الدولي مغايرًا: رفض الاستماع، والخروج من القاعة.

بهذا المشهد، يتأكد أن إسرائيل اليوم ليست فقط في مواجهة المقاومة الفلسطينية، بل أيضًا أمام أزمة صورة وشرعية لم يسبق لها مثيل، وهو ما يجعلها تخسر شيئًا فشيئًا في الميدان السياسي والدبلوماسي، مهما طال أمد الحرب.