شهدت العلاقات المصرية التركية خلال العقد الماضي توترات عميقة وصلت إلى حد القطيعة الدبلوماسية والتعاون العسكري. لكن هذا العام، وفي تحول استراتيجي لافت، وصلت وحدات من القوات البحرية المصرية إلى تركيا للمشاركة في التدريب البحري المشترك "بحر الصداقة – 2025"، الذي يُجرى في شرق البحر الأبيض المتوسط بين 22 و26 سبتمبر الجاري. المناورات تمثل أول تعاون عسكري بحري بين البلدين منذ عام 2012، وتحمل دلالات سياسية وأمنية بالغة الأهمية في ظل تحولات إقليمية ودولية عميقة، أبرزها اهتزاز الثقة في الحليف الأمريكي، وتشكّل توازنات جديدة تعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة.
 

أبعاد استراتيجية للمناورات البحرية
يصف الخبير العسكري التركي كمال أولكار، عضو هيئة التدريس بجامعة بيكينت، هذه التدريبات بأنها ليست مجرد خطوة تكتيكية مؤقتة، بل جزء من تحالف استراتيجي طويل الأمد. ويؤكد أولكار أن الغرض الأساسي من المناورات هو "تحقيق التشغيل البيني بين السفن والطائرات والمركبات العسكرية، بما يرفع كفاءة تنفيذ العمليات المشتركة". واعتبر أن هذه التدريبات تندرج ضمن رؤية أوسع لتعزيز التعاون العسكري رفيع المستوى استنادًا إلى مذكرات التفاهم الموقعة بين البلدين العام الماضي.
 

التقارب المصري التركي ورسالة إلى إسرائيل
يرى هاني الجمل، الباحث في الشؤون الإقليمية والدولية، أن المناورات تأتي في سياق إقليمي حساس، وتشكل رسالة واضحة لإسرائيل وحلفائها. ويشير إلى أن التعاون البحري بين مصر وتركيا يثير قلق تل أبيب، خصوصًا في ضوء استخدامها المتزايد لقبرص اليونانية كقاعدة عسكرية. ويضيف أن "تحويل منطقة شرق المتوسط من ساحة خلاف إلى ساحة تعاون يعكس رغبة البلدين في إحباط مخططات توسعية إسرائيلية، وتأسيس توازن جديد في الإقليم".
 

الدلالات السياسية والدفاعية للتقارب
نائب وزير الخارجية المصري الأسبق حسين هريدي أكد أن استئناف المناورات يعكس تطورًا نوعيًا في مسار العلاقات بين القاهرة وأنقرة، يتجه نحو بعدين رئيسيين: الأمني والدفاعي. واعتبر أن هذه الخطوة لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تحمل دلالة سياسية كبرى بأنها جزء من مساعي إرساء توازنات إقليمية جديدة، يمكن أن تؤسس لتعاون دفاعي ممتد بين البلدين.
 

تركيا ترى العلاقات في أفضل مستوياتها
من جانبه، اعتبر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن علاقات بلاده مع مصر وصلت اليوم إلى "أفضل مستوياتها في التاريخ الحديث". وأكد فيدان أن "هناك المزيد مما يمكن فعله ويجب فعله"، مشيرًا إلى أن التعاون العسكري الراهن ليس سوى بداية لمسار أوسع من الشراكة. وأضاف: "البلدان يكتشفان ما يمكن تحقيقه من خلال الجمع بين إمكاناتهما المشتركة والفردية معًا"، وهو ما يعكس الطموح التركي لإرساء محور جديد في المنطقة.
 

توازنات إقليمية جديدة في ظل غياب الثقة بأمريكا
الخبير العسكري التركي أولكار شدد أيضًا على أن المناورات لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحولات الدولية. فقد شهدت المنطقة خلال الأشهر الأخيرة تغيرات جذرية في السياسات الدفاعية، أبرزها الاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني، وتعاون الإمارات مع الهند، وهي خطوات جاءت على خلفية اهتزاز الثقة في الحماية الأمريكية بعد الضربة الإسرائيلية لقطر.
هذه التطورات، وفق الخبراء، تفتح الباب أمام تحالفات جديدة، يكون التعاون المصري التركي أحد أبرز تجلياتها، في ظل تراجع الاعتماد على واشنطن وتنامي الرغبة في بناء شراكات إقليمية أكثر استقلالية.
 

مناورات "بحر الصداقة 2025" لا تقتصر على كونها حدثًا عسكريًا عاديًا، بل تمثل تحولًا استراتيجيًا في مسار العلاقات بين مصر وتركيا بعد أكثر من عقد من التوتر.

تصريحات الخبراء والمسؤولين تكشف أن هذا التعاون البحري يعكس إعادة رسم لمعادلات القوة في شرق المتوسط، ورسالة إلى القوى الدولية والإقليمية بأن البلدين قادران على تجاوز الخلافات السابقة وبناء تحالف متين يواكب التحولات العالمية.
وبذلك، فإن المناورات تمثل بداية مرحلة جديدة عنوانها التوازن الإقليمي والاستقلالية في مواجهة ضغوط القوى الكبرى.