قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بفرض رسوم تصل إلى 10 آلاف دولار على تأشيرة H-1B، المخصّصة لجذب الكفاءات والمهارات المتقدمة من مختلف أنحاء العالم، يمثل تحوّلًا خطيرًا في السياسات الاقتصادية والهجرية للولايات المتحدة.
هذه التأشيرة لم تكن مجرد ورقة دخول، بل أداة استراتيجية اعتمدت عليها واشنطن لعقود في استقطاب العقول والمهارات التي ساهمت بشكل مباشر في بناء نهضة التكنولوجيا والصناعات المتقدمة. واليوم، بدلًا من تعزيز هذه السياسة، يفتح ترامب الباب أمام انغلاق يهدد مكانة أمريكا كوجهة أولى للمواهب العالمية.
تأشيرة H-1B: بوابة العقول إلى أمريكا
لطالما كانت تأشيرة H-1B واحدة من أهم أدوات الهجرة الاقتصادية في الولايات المتحدة. هي الوسيلة التي دخل من خلالها آلاف المهندسين والأطباء والعلماء وخبراء التكنولوجيا إلى أمريكا، ليساهموا في شركات مثل مايكروسوفت وغوغل وتسلا، وليدفعوا عجلة الاقتصاد الأمريكي نحو الصدارة العالمية. بحسب دراسات اقتصادية، فإن نسبة كبيرة من الابتكارات في وادي السيليكون جاءت من عقول مهاجرين حصلوا على هذه التأشيرة. فرض رسوم باهظة على هذه الفئة يعني إغلاق الباب أمام تدفق الطاقات التي صنعت التفوق الأمريكي.
الرسوم الباهظة: عائق أمام الكفاءات والشركات
الرسوم الجديدة التي تصل إلى 10 آلاف دولار ليست مجرد "تكلفة إضافية". هي رسالة واضحة بأن أمريكا لم تعد ترحّب بالكفاءات القادمة من الخارج. فالكثير من المواهب الشابة، خاصة من الدول النامية، لن تستطيع دفع هذا المبلغ، في وقت يمكنها فيه التوجه إلى كندا أو أوروبا أو أستراليا التي تقدم تسهيلات أكبر وتكاليف أقل. حتى الشركات الأمريكية نفسها ستجد صعوبة في استقدام الموظفين المميزين، ما يدفعها لنقل مراكزها البحثية إلى الخارج، وهو ما يعني نزيفًا اقتصاديًا وفقدانًا للريادة.
من الانفتاح إلى الانغلاق
السياسة الجديدة تعكس فلسفة ترامب الشعبوية: الانغلاق على الداخل بدل الانفتاح على العالم. لكن المفارقة أن هذه السياسة تعاكس تمامًا التجربة الأمريكية التي قامت على استقطاب المهاجرين واستثمار تنوعهم. الولايات المتحدة التي بنت قوتها على "أمة المهاجرين" تتحول اليوم إلى دولة تغلق أبوابها أمام من يملكون طاقة الابتكار. وهو تحول خطير، لأن المنافسة العالمية في التكنولوجيا والعلوم لا تنتظر، والدول التي تستقطب العقول هي من تقود المستقبل.
الأثر الاقتصادي طويل المدى
خبراء الاقتصاد يحذرون من أن هذه الرسوم لن تدر دخلًا حقيقيًا على الموازنة الأمريكية، بل ستؤدي إلى خسائر ضخمة على المدى البعيد. فالمهاجرون عبر H-1B يساهمون في مليارات الدولارات سنويًا من خلال الضرائب والاستثمارات والابتكار. تعطيل هذه الآلية يعني فقدان أمريكا لمصدر لا يُقدّر بثمن: العقول المهاجرة التي رفعت إنتاجية الاقتصاد الأمريكي إلى مستويات غير مسبوقة. بينما ستستفيد الصين والهند وكندا من هذا النزيف، مستقطبة العقول التي تُغلق أمريكا أبوابها في وجوهها.
رسالة خاطئة للعالم
هذا القرار يرسل إشارة سلبية إلى العالم: أن أمريكا لم تعد الوجهة الآمنة للكفاءات. فبدل أن تكون الحلم الذي يقصده الشباب الطموحون، تتحول إلى دولة تعاقبهم بالرسوم والعراقيل. إنها دعوة صريحة للانغلاق، ورسالة أن "الابتكار الأمريكي" لم يعد عالميًا، بل حكرًا على الداخل، حتى لو كان ذلك على حساب مكانة أمريكا الدولية.
واأخيرا فإن فرض رسوم 10 آلاف دولار على تأشيرة H-1B ليس مجرد إجراء إداري، بل خيار استراتيجي خاطئ قد يُدخل أمريكا في دوامة من التخلف والتراجع. فالعالم لا ينتظر، والدول التي تفتح أبوابها للكفاءات هي التي ستقود الثورة التكنولوجية المقبلة. أما أمريكا ترامب، فهي ترسم طريقًا معاكسًا: طريق الانغلاق، وفقدان الريادة، والتخلي عن أهم مصادر قوتها. وكما أن الدولار وحده لا يبني أوطانًا، فإن الجدران والقيود لا تصنع نهضة، بل تدفنها.